الفرق الضالة في هذا الباب على نوعين: القدرية نفوا مشيئة الرب فكفروا بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:٣٠] ، والجبرية ألغوا مشيئة العبد فكفروا بقوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى الحق وإلى الطريق المستقيم بين هاتين الضلالتين: ضلالة الجبرية، وضلالة القدرية.
قال:(وهذه الدرجة من القدر) المتضمنة لمرتبتي المشيئة والخلق (يكذب بها عامة القدرية) أي: أكثرهم، وهم المعتزلة (الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة) ، وأول من أظهر هذه المقالة الفاسدة بين المسلمين: معبد الجهني فإنه نفى القدر، ويقابله الجبرية وأول من قال بقولهم: الجهم بن صفوان: رأس البدعة، ومنبع الشر في كثير من العقائد، ووجه تسمية هؤلاء بالمجوس: أنهم جعلوا في الكون خالقاً غير الله، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يخلق أفعال العباد، فأثبتوا خالقاً غير الله سبحانه وتعالى، وهذه هي عقيدة المجوس، حيث جعلوا إلهاً للخير وإلهاً للشر، إلهاً للنور وإلهاً للظلمة، وقد ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الصلاة على موتاهم، وعيادة مرضاهم، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه جماعة من أهل العلم.
قال:(ويغلوا فيها) أي: في هاتين الدرجتين (قوم من أهل الإثبات) في الجملة هم من أهل الإثبات؛ لأنهم يثبتون هذه المراتب (حتى سلبوا العبد قدرته واختياره) فجعلوا الأخبار المثبتة لمشيئة الله عز وجل وقدرته وخلقه قاضية على مشيئة العبد وما يصدر منه من فعل.
قال:(ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه) أفعال الله وأحكامه أي: شرائعه وأحكامه الكونية والقدرية (حكمها ومصالحها) لماذا يخرجون عن أفعاله وأحكامه حكمها ومصالحها؟ لأنهم لا يثبتون أنه الحكيم، فينفون عنه هذا الوصف ويقولون: إنه لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل لمحض المشيئة، هكذا زعموا فألغوا حكمة الرب سبحانه وتعالى الذي وصف بها نفسه في آيات كثيرة، وفيها: أنه الحكيم سبحانه وتعالى، وجعلوا معنى الحكيم أي: ذو الحكم الذي له الحكم، أما الحكمة فإنها منفية عنه.
هاتان البدعتان نزع إليهما فريقان من الفرق الإسلامية وهما: فرقة الكلابية، وفرقة الأشعرية، فالكلابية نزعوا إلى القدرية، والأشعرية مالوا إلى الجبرية، ولكن الأشعرية أتوا بقول ملطف فقالوا: إن العبد له قدرة على فعله، وفعله من كسبه، لكن لا أثر لقدرته على فعله، وهذه من المعضلات العقلية؛ ولذلك قالوا: إنها من المحالات العقلية، وعدوها من الأقوال التي لا حقيقة لها، الأقوال التي لا حقيقة لها متعددة، ومحصورة في كلام أهل العلم، منها: كسب الأشعري، حيث قال: إن العبد يقدر على فعله، لكن قدرته لا تأثير لها على فعله، قيل له: ما هذه القدرة التي تثبتها؟! قال: هي مقارنة القدرة للكسب، وإن كانت لا تؤثر! وعلى كل حال فهذا كلام يتعب الذهن ولا فائدة منه، وإنما هو خيال تصوره صاحبه، واتبعه عليه أقوام، لو فتشت وتأملت وبحثت معهم لم تجد عندهم معنى صحيحاً لهذا القول، ولذلك تجدهم يسعون إلى التلفيق، ولكنهم لم يوفقوا إلى الصواب.