[فتنة القبر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، (فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) ] .
هذا فيه تفصيل الفتنة التي تكون في القبر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أمن منها، وفاز فيها! يقول رحمه الله: (فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم) يمتحنون ويختبرون، ثم بين وفصل ما هذا الاختبار: (فيقال للرجل -والمقصود المقبور ذكراً كان أو أنثى-: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) وهذه هي الأصول الثلاثة التي إذا وفق العبد إلى القيام بها في الدنيا وفق إلى الجواب عنها يوم القيامة، فبقدر ما يكون مع الإنسان من الثبات على هذه الأصول الثلاثة بقدر ما يحصل له من الثبات عند الفتنة والاختبار.
(من ربك؟) هذا سؤال عن الرب جل وعلا.
(وما دينك؟) هذا سؤال عن الدين.
(ومن نبيك؟) هذا سؤال عن الرسول.
قال: (فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] ) يثبتهم وهم أشد ما يكونون حاجة إلى التثبيت؛ وذلك أن هذه الفتنة ليست أمراً سهلاً ولا أمراً يسيراً، إنما هي أمر عظيم، وخطب كبير، يأتي الإنسان في هذا المكان الموحش ملكان عظيمان، ورد تسميتهما: (منكر ونكير) في السنة، وهذان الاسمان يتضمنان وصفين لهذين الملكين، فإنهما يأتيان بهيئة تنكرها النفوس فيراهما حقيقة، وكيف بك إذا رأيت شيئاً لم يسبق لك أن تراه؟ فالهول عظيم؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى التثبيت، فقال الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] ، وهو ما يكون في فتنة القبر، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق في الدنيا والآخرة! وفي هذا الامتحان ينقسم الناس إلى قسمين: مؤمن، وكافر.
(فيقول المؤمن) في جواب هذه الأسئلة الثلاثة (الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي) فيأمن ويفوز، ويسلم من هذه الفتنة، (أما المرتاب) ويشمل المنافق والكافر، (فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري) أعوذ بالله، أما المنافق فإنه يغلق عليه ما كان يتلفظ به في الدنيا بلسانه، وأما الكافر فإنه لم يهتد، فلا يقر برب يفرد بالعبادة، ولا بدين يجب اتباعه وقبوله، ولا برسول يلزم الإيمان به والتصديق؛ فلذلك يكون قوله: (لا أدري) مطابق لحاله.
وأما المنافق فإنه يغلق عليه ويغفل عما كان يقوله بلسانه، ولم يقر منه شيء في قلبه، فيقول: [سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته] هذا حال المنافق والمرتاب، إما أن يكون قولاً صحيحاً لم يقره في قلبه، وإما أن يكون قولاً باطلاً فلا ينفعه حتى لو ذكره للملكين، فهذا يشمل جواب المنافق وجواب الكافر، فيصح أن يقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، يعني: ولم يقر في قلبي فلم أتذكره، ويصح أن يكون هذا الجواب من المنافق، أنه لم يهتم بهذا الأمر، وإنما قال قولاً لا يدري عن صدقه ولا عن صحته.
فلا يلزم أن يكون هذا من المنافق فقط، بل قد يكون من المنافق وقد يكون من الكافر، المهم أنه لا يوفق إلى الجواب، ويحال دونه ودون الصواب.
[فيضرب بمرزبة من حديد] ولا تقول: كيف ولا نرى؟ هذا أمر غيبي فلا تقل: كيف، ولا تعلق ذلك بالرؤية، فإن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم صدق وحق على حقيقته، ومن نعمة الله أن هذا لم يدخل فيه أهل التأويل بالتحريف الباطل، ولا بالتأويل المذموم، بل سلموا للنصوص؛ ولذلك قل الخلاف في هذا الأصل بين أهل الإسلام.
والذين خالفوا شيخ الإسلام رحمه الله وشنعوا عليه في هذه الرسالة، لما قرئ عليهم هذا الفصل لانت جلودهم، وقبلوا قوله، ولم يخالفوه، بخلاف الفصول السابقة فإن الجدال فيها كثر، والنكير فيها واضح منهم على شيخ الإسلام رحمه الله.
[فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء] ، ظاهره أنه يسمعها كل شيء على الأرض، ولكن جاء في الحديث: (أنه يسمعها من كان قريباً من القبر) ، وأنه ليس المراد يسمعها كل شيء ولو بعد، إنما يسمعها كل شيء ممن كان قريباً من القبر إلا الإنسان فإنه لا يسمعها، وهذا من رحمة الله عز وجل بنا.
قال: [ولو سمعها الإنسان لصعق] لهول الأمر وعظيم الخطب، ولكن من رحمة الله عز وجل أن حيل بين الإنسان وسماع هذا الذي تفزع له القلوب، ولو أن الناس سمعوا لوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصعق.
هذه الفتنة هل هي عامة لكل أحد؟ ظاهر كلام الشيخ رحمه الله أنها عامة لجميع المكلفين، وهذا هو الصحيح، أن الفتنة عامة لكل مقبور، ولم يقع خلاف بين أهل السنة والجماعة في ذلك، إلا في الأنبياء فقد اختلف أهل العلم في وقوع الفتنة لهم على قولين: منهم من قال: إنهم يسألون، ومنهم من قال: إنهم لا يسألون.
والظاهر أنهم لا يسألون؛ لأنه يسأل عنهم، وعلى كل حال المسألة ليس وراءها كثير فائدة بالنسبة لما يتعلق بالأنبياء.
كذلك مما وقع فيه الخلاف الشهداء، وظاهر السنة أنهم لا يفتنون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كفى ببارقة السيوف فوق رأسه -أي: المجاهد- فتنة) .
وممن استثني من غير المكلفين المجنون والصغير، فقد اختلف العلماء: هل يسألون أو لا؟ على أقوال، وعلى كل حال نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، فإنهم إن سئلوا فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتنة التي تكون لهم يوم القيامة؛ لأن من لم تبلغه الرسالة أو مات وهو صغير ولم يمت على الإسلام وما أشبه هؤلاء يفتنون يوم القيامة ويختبرون، فإن آمنوا وصدقوا وامتثلوا نجوا، وإلا كان ذلك هلاكاً لهم.