وقد ضل في هذه الصفة الجهمية المعتزلة الذين سعوا في فتنة أهل الإسلام في عهد الإمام أحمد رحمه الله، ففتنوا الناس وقالوا: ليس لله كلام يتصف به، إنما كلامه شيء خلقه، فهو من باب إضافة الخلق، لا من باب إضافة الصفات، وقد رد الله بدعتهم، وثبت الله عز وجل الأمة بثبات الإمام أحمد، وظهرت السنة، وانقمعت البدعة ولله الحمد.
الفريق الثاني ممن ضل في هذه الصفة: الأشاعرة الذين يثبتون أن لله كلاماً، لكنهم يقولون: إن كلامه ليس بحرف وصوت، وإنما كلامه كلام نفساني، يعني: كلاماً معنوياً لا يتبين منه شيء، ولا يعرف منه شيء بلفظ أو بحرف، إنما هو أمر في نفس الله عز وجل، وتصور هذا القول يكفي في رده، كما أن معرفة كلام العرب يكفي في رده، فضلاً عن تواتر الأدلة في الكتاب والسنة، وإجماع السلف على أنه سبحانه وتعالى متصف بالكلام، وأنه يتكلم جل وعلا بحرف وصوت، فإن تكليمه لموسى إنما كان بكلام مفهوم، وهؤلاء لا يفهمون إلا الكلام الذي يكون بحرف وصوت، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام الذي يأتي في هذه الرسالة عن القرآن.
فإن الذين ينكرون رسالة الرسل إما أن ينكروا أن يبعث الله إلى الناس رسولاً بشراً منه، وإما أن ينكروا أن يكون الذي أتى به هو كلام الله، ويقولون: إن هو إلا قول البشر، فينفون أن يكون كلاماً له سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان الإلحاد في هذه الصفة له خطورة متميزة عن غيرها من الصفات.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله بعد ثبوت اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة في هذه الآيات ذكر الآيات الدالة على أن كلامه بصوت وحرف فقال: [وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}[مريم:٥٢] ، وقوله:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:١٠] ، وقوله:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا}[الأعراف:٢٢] ، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:٦٢] ، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:٦٥]] .
هذه الآيات كلها فيها إثبات النداء لله سبحانه وتعالى، وإنما أتى بها المصنف رحمه الله لأن النداء في لغة العرب لا يكون إلا لما كان بحرف وصوت، فهو أراد بهذه الأدلة إبطال مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن كلامه كلام نفساني ليس بحرف وصوت، فالنداء لا تعرفه العرب إلا للنداء الذي يكون بصوت رفيع ويكون بصوت وحرف، ولا يلزم من هذا أي لازم باطل، بل إثباته كسائر صفات الله عز وجل هو من كماله سبحانه وتعالى؛ لأنه إنما اتصف بالصفات العليا الكاملة المنتهية في الحسن والكمال، ونداؤه سبحانه وتعالى لموسى، ونداؤه لآدم وحواء ونداؤه يوم القيامة إنما هو بكلام له حرف وصوت، وليس نداءً نفسانياً كما يزعمه أهل الكلام، والنداء قد أثبته الله عز وجل لنفسه في كتابه في أكثر من عشرين موضعاً، ويأتي إن شاء الله تعالى تقرير أن كلامه بحرف وصوت فيما نستقبل.