إذا قال قائل: كيف وجه الله؟ نقول: الله أعلم، فهذا أمر لا تحيط عقولنا به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١] ، لكن لما أخبر الله عن نفسه بأن له وجهاً، فليست لنا حجة، وليس معنا برهان إذا لم نثبت ذلك، كيف يلقى العبد ربه وهو لا يثبت له هذا الذي أثبته لنفسه؟ فنحن نسلم بالنصوص، ونؤمن بما جاء فيها، وقد جاء الخبر بأن ربنا تبارك وتعالى له وجه، واعلم أنه ليس كمثله شيء، فمهما تخيل الإنسان وبلغ في تصوره والتفكير فيما أخبر به عن نفسه فإنه لا يصل إلى شيء، وقد قال الله في إثبات هذه الصفة:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٧] .
ومن حسن تصنيف المؤلف أن بدأ بهذه الآية في إثبات صفة الوجه؛ لأنها آية لا يتمكن أهل التأويل من إبطال مدلولها، فإنها أصرح آية في إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، هم تأولوا الآيات التي فيها صفة الخبر، كالوجه واليد والعين، لكن هذه الآية فيما يتعلق بصفة الوجه لا يستطيعون تأويلها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن بقاء الوجه، ثم إنه وصف وجهه سبحانه وتعالى فقال:{ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٧] ، وهم في صفة الوجه يؤولونها بأنه ما يقصد به الله، فيقولون:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[الرحمن:٢٧] ، يعني: ما ابتغي به وجهه، أي: ما أخلص له هو الذي يبقى، وأما ما عداه فهو هالك، ويحملون عليه قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:٨٨] ، قالوا: كل عمل يبطل ويضمحل ولا تحصل ثمرته إلا ما قصد به وجهه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه) أي: قصد به سبحانه وتعالى.
فالجواب على تأويلهم: أنه لا يستقيم لكم هذا التأويل -وبالأصح نقول: هذا التحريف- في قوله تعالى:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] ؛ لأنه وصف الوجه بوصفين: فقال: (ذو الجلال) أي: صاحب الجلال، (والإكرام) أي: صاحب الإكرام، والجلال هو الكبرياء والعظمة، والإكرام تكلم في تفسيره أهل العلم، ويدور كلامهم فيه على معنيين من الإكرام، قالوا: ذو المحبة والحمد، يعني: صاحب المحبة فهو يحب سبحانه وتعالى، والحمد فهو أحق من حمد جل وعلا، وله المحامد كلها، فهل يصح أن يوصف العمل بأنه ذو كبرياء؟ لا يصح، فلما كان لا ينطبق عليه هذا الوصف، ولا يوصف به عمل الإنسان، ولا يوصف به ثواب العمل؛ فقد تبين بطلان هذا التأويل، وأن الوجه هنا هو ما اتصف به سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: ويبقى وجهه الذي هو صفته، ووصف وجهه سبحانه وتعالى، الذي تنزه عن كل نقص وعيب بهذين الوصفين:(ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) ذو العظمة والكبرياء، وذو المحبة والحمد.
ثم قال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:٨٨] ، وهذا أيضاً فيه إثبات هذه الصفة من هذه الآية له سبحانه وتعالى.
ولقائل أن يقول: لماذا لم يذكر الشيخ رحمه الله في الاستدلال لهذه الصفة قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:١١٥] ؟ الجواب على هذا السؤال: أن الشيخ رحمه الله يرى أن معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: قبلته، فالوجه هنا بمعنى الاتجاه؛ ولذلك لم يذكر هذه الآية في الآيات التي ساقها لإثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى.