قال النووي في "شرح مسلم": "قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك؛ فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا.
هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجمهية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقا؛ لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس؛ لسد الحاجة والفاقة؛ رغبة في سد الرمق، أو تقية وخوفا من أذاه؛ لأن فتنته عظيمة جدا، تدهش العقول، وتحير الألباب، مع سرعة مروره في الأرض؛ فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة.
ولهذا؛ حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته، ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله، وأما أهل التوفيق؛ فلا يغترون به، ولا يخدعون