للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان الناس إذا دخلوا عليه خرجوا من عنده، ولا يعدون الدُّنْيَا شيئًا، وما رأوا أشد احتقارًا لأهل الدُّنْيَا منه.

وكانوا يدخلون عليه في مرضه يعودونه وليس في بيته إلا سرير مرمول (١) هو عليه، وليس في بيته قليل ولا كثير، حتى قال ابن عون: "إِنَّمَا اسْتَبَدَّ الحَسَنُ النَّاس بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا العِلْمُ فَقَدْ شُورِكَ فِيهِ".

وكان الحسن يقول: "إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، المُجْتَهِدُ فِي العِبَادَةِ، القَائِمُ بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، من رأى مُحَمَّدًا فقد رآه غاديًا ورائحًا لم يضع لبنة، على لبنة ولا قصبة على قصبة؛ إِنَّمَا رفع له علم فشمر إِلَيْهِ".

وكان سفيان الثوري أشد تقشفًا في ملبسه من الحسن، حتى كان من يراه ولا يعرفه يظنه من السؤال، وكان مع شدة ورعه إذا وجد الحلال أكل منه طيبًا، وإن لم يجد حلالاً استف الرمل، وربما بقي ثلاثًا لا يطعم شيئًا مع عرض الناس عليه الأموال الكثيرة.

وكان إذا شبع من الحلال يزيد في عمله ويقول: "أطعم الزنجي وكده ".

وكان أزهد الناس في الدُّنْيَا في زمانه حتى كان يتعرى بمجلسه عن الدُّنْيَا ولم تكن السلاطين والملوك والأغنياء أذل منهم في مجلسه، ولا الفقراء والمساكين أعز منهم فى مجلسه.

وكان الخوف قد غلب عليه، فلما مرض مرض الموت حُمل ماؤه إلى طبيب فَقَالَ: "لَيْسَ لِهَذَا دَوَاءٌ، هَذَا قَدْ فَتَّتَ الحُزنُ وَالخَوفُ كَبِدَهُ".

ويقال: لم يكن في زمانه من هو أخوف لله منه، ولا من هيبة الله في صدره أعظم منه.


(١) قال أبو عبيد: رملت الحصير وأرملته، فهو مرمول اذا نسجته، "اللسان" مادة: (رمل).