للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالعالم إذا عَلَّم من يقوم به بعده؛ فقد خلف علمًا نافعًا وصدقة جارية؛ لأنّ تعليم العِلْم صدقة، كما سبق عن معاذ وغيره، والذين علمهم بمنزلة أولاد الصالحين يدعون له، فيجتمع له بتخليف علمه هذه الخصال الثلاث.

والأمر الثاني: أن من كمال ميراث العالم للرسول -عليه السلام- أن لا يخلف الدنيا كما لم يخلفها الرسول، وهذا من جملة الاقتداء بالرسول وبسنته في زهده في الدنيا، وتقلله منها، واجتزائه منها باليسير.

كما كان سهل التستري يقول: مِنْ عَلاَمَةِ حُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الآخِرَةِ وَبُغْضُ الدُّنْيَا، وألا يأخذ مِنْهَا إِلاَّ زَادًا بُلْغَةً إِلَى الآخِرَةِ.

وقال مالك بن دينار: إِنَّمَا العَالِمُ الَّذِي إِذَا أَتَيْتَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ تَجِدْهُ قَصَّ عَلَيْكَ بَيْتِهِ، رَأَيْتَ حَصِيرَةَ الصَّلاةِ وَمُصْحَفِهِ وَمَطْهَرَتَهُ فِي جَانِبِ البَيْتِ، تَرَى أَثَرَ الآخِرَةِ.

وكان الفضيل يقول: احْذَرُوا عَالِمَ الدُّنْيَا لاَ يَصُدَّكُمْ بِسُكْرِهِ. ثم قال: إِنَّ كثيرًا مِنْ عُلَمَائِكُمْ زِيُّهُ أَشْبَهَ بِزِيِّ كِسْرَى وَقَيْصَر، أَشْبَهُ مِنْهُ بِزِيِّ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، وَلَكِنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ".

وكان يقول: العُلَمَاءُ كَثِيرٌ وَالحُكَمَاءُ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يُزَادُ مِنَ العِلْمِ الحِكْمَةُ، فَمَنْ أُوتِيَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.

وهكذا كان حال العُلَمَاء الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد، اجتزءوا من الدنيا باليسير إلى أن خرجوا منها، ولم يخلفوا سوى العِلْم، مع أن بعضهم كان يلبس لباسًا حسنًا، ويأكل أكلاً متوسطًا بعيدًا من التقشف.

كالحسن البصري؛ فإنه كان يأكل اللحم كل يوم، كان يشتري بنصف درهم لحمًا فيطبخه مرقة طيبة فيأكل منه هو وعياله، ويُطْعِمُ كل من دخل عليه، وكان يلبس الثياب الحسنة، وهو مع هذا أزهد الناس في الدنيا، وما زاحم على شيء منها قط.