للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والخوفَ من زَوَالِها كانَ ذلكَ حظَّهُ من اللَّه وانقطَعَ به عنهُ، فهو كما قالَ بعضُهم: ويلٌ لِمَن كانَ حَظُّهُ مِن اللَّه الدُّنْيَا.

وكان السَّرِيُّ السَّقَطَيُّ يعجب مما يَرى من علمِ الجنُيدِ وحُسنِ خطابِهِ وسُرعةِ جَوابهِ فقالَ لَه يَومًا -وقَد سأَلهُ عن مَسألةٍ فَأجابَ وأَصابَ-: أَخشَى أن يكونَ حظَّكَ من الدُّنْيَا لسانك. فكانَ الجُنيدُ لَا يزالُ يَبكِي من هذهِ الكلمةِ.

ومَن اشتغلَ بتَربيةِ منزلتِهِ عندَ اللَّه بما ذكرنا من العلمِ الباطنِ وَصلَ إِلَى اللَّه، فاشتغلَ بهِ عما سواهُ، وكانَ لهُ في ذلكِ شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، ومع هذا، فإن الله يُعطيهِ المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشَّرفَِ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يَقفُ معهُ؛ بل يَهرَبُ منهُ أَشدَّ الهربِ ويفِرُّ أَشدَّ الفِرَارِ؛ خشيةَ أن يقطعَهُ الخلقُ عن الحقِّ جلَّ جَلالُهُ.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (١).

أي: في قلوبِ عِبادِهِ.

وفي حديث: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى: يَا جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا.

فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".

والحديثُ مَعروفٌ، وهُو مُخرّج في "الصحيح" (٢).

وبكُلِّ حالٍ؛ فطلبُ شرف الآخرةِ يَحصلُ معه شرف الدُّنْيَا، وإن يُردْهُ صاحبُهُ ولم يطلُبهُ، وطلبُ شرف الدُّنيا يمنع شَرفَ الآخرةِ ولا يَجتمعُ معهُ، والسعيدُ من آثَرَ الباقي عَلَى الفاني، كما في حديثِ أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى».


(١) مريم: ٩٦.
(٢) أخرجه البخاري (٣٢٠٩).