للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعني: أنَّ مبدأ الخير منك؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (١).

وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (٢) فاللَّه تعالى هو المبُتدئ بالخير، فمنه بدأ ونشأ. والخيرُ به، يعني: أنَّ دوامه واستمراره وثبوته باللَّه، ولو شاء اللَّه لنزعه وسلبه صاحبه. وقد قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (٣) يعني: أنَّ دوام هذه النعمة عليك من اللَّه كما أن ابتداءها منه.

والخيرُ إِلَيْهِ: بمعنى أَنَّه يرجع بصاحبه إِلَى الله في الآخرة، وإلى جِواره وقُربه فى جنات النعيم. فينتهي الخيرُ بصاحبه إِلَى اللَّه عزَّ وجلَّ.

ويُحتمل أنَّ المراد بقوله: "ومنك وبك وإليك": أنَّ العبد نفسه باللَّه ومن اللَّه وإلى الله؛ كما في حديث الاستفتاح: "أنا بك وإليك" ولعل هذا أظهر. ويكون معنى الكلام؛ أنَّ العبد وجودُه من اللَّه تعالى، فإنه كان عدمًا فأوجده اللَّه وخلقه، وهو في حال وجوده في الدُّنْيَا باللَّه. أي أنَّ ثباته وقيامه باللَّه، فلولا أنَّ اللَّه يُقيم الوجود وما فيه من أنواع الخلق لهلك ذلك كله وتلف. ومن أسمائه الحيُّ القيوم؛ وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (٤). وفي الأثر المعروف في قصة القارورتين: "يا مُوسى، لو نمتُ لسقطت السماء عَلَى الأرض".

وبعد انتقال العباد من هذه الدار فإنَّ مرجعهم إِلَى اللَّه، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (٥) ثم قال: {تُرْجَعُونَ} (٦) في آيات كثيرة.

وفي هذا المعنى قال بعضُ العارفين: حقيقة التوحيد أنْ يكون العبد فانيًا في الله عز وجل يرى الأشياء كلَّها به وله، وإليه ومنه، كما قال عامر بن عبد قيس: ما نظرتُ إِلَى شيءٍ إلَّا رأيت الله فيه.


(١) النحل: ٥٣.
(٢) الجاثية: ١٣.
(٣) الإسراء: ٨٦.
(٤) فاطر: ١ ٤.
(٥) يونس: ٤.
(٦) البقرة: ٢٨.