للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إِلَى الإسلام لم يستجيب في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيله، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر عَلَى ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يطردون ويشردون كل مشرد، ويهربون بدينهم إِلَى البلاد النائية، كما هاجروا إِلَى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إِلَى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله، وفيهم من قتل، فكان الداخلون فى الإسلام حينئذٍ غرباء.

ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إِلَى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة.

وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمر عَلَى ذلك، وأهل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة.

في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا عَلَى ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده عَلَى المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان لتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، فمهنم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعه. فأما فتنة الشبهات، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- من غير وجه أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة، عَلَى (خلاف) (*) الروايات في عدد الزائد عَلَى السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي من كان عَلَى ما هو عليه وأصحابه.

وأما فتنة الشهوات، ففي "صحيح مسلم" (١)، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كَيفَ أَنتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ، أَيُّ قَوْمٍ


(١) برقم (٢٩٦٢).
(*) اختلاف: "نسخة".