للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدُّنْيَا، والعارف غريب الآخرة يشير إِلَى أن الزاهد غريب بين أهل الدُّنْيَا، والعارف غريب لن أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله، وهمته كهمته.

وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها، أو كثير منها أو بعضها، فلا تسأل عن غربته حينئذ، فالعابدون ظاهرون لأهل الدُّنْيَا والآخرة، والعارفون مستورون عن أهل الدُّنْيَا والآخرة.

قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف عَلَى نفسه؛ لخفاء حاله، وإساءته الظن بنفسه.

قال إبراهيم بن أدهم: ما أرى هذا الأمر إلا في رجل لا يعرف ذاك من نفسه، ولا يعرفه الناس منه.

وفي حديث سعد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ" (١).

وفي حديث معاذ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةَ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ» " (٢).

وعن علي: طوبى لكل عبد لومة عرف الناس، ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصالح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلال، تخفون عَلَى أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء.

فهؤلاء هم أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل، الذين يحشرون مع عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم بين أهل


(١) أخرجه مسلم (٢٩٦٥).
(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٩٨٩)، والحاكم (١/ ٤)، (٤/ ٣٢٨).