للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمؤمنون في هذا أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه، وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين إِنَّمَا أشار إِلَى هذا القسم، فالعارفون أبدانهم في الدُّنْيَا وقلوبهم عند المولى.

وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: «عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي، كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا لَمْ يَنْسِنِي حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» (١).

وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة، وباطنة.

فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العُلَمَاء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة أهل الآخرة بين علماء الدُّنْيَا الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس هو بباق.

وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمَّة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم، حتى العُلَمَاء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم، لا يعرجون بقلوبهم عنه.

كان أبو سليمان يقول في وصفهم: همتهم غير همة الناس، وإرادتهم من الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس.

وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: أن يطَّلع عَلَى قلبك فلا يراك تريد من الدُّنْيَا والآخرة غيره.


(١) ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الخامس عشر (١/ ٣٤٢) وقال: خرجه إبراهيم بن الجنيد.