للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: اعبروها ولا تعمروها.

وعنه عليه السلام أنه قال: "من الَّذِي يبني عَلَى موج البحر دارًا؟ تلك الدُّنْيَا فلا تتخذوها قرارًا". فالمؤمن في الدُّنْيَا كالغريب المجتاز ببلدة، غير مستوطن فيها، فهو يشتاق إِلَى بلده، وهمه الرجوع إِلَيْهِ والتزود بما يوصله في طريقه إِلَى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل.

قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدُّنْيَا مهموم حزين، همه مرمة (١) جهازه.

وقال الحسن: المؤمن في الدُّنْيَا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس فى عزها، له شأن وللناس شأن.

وفي الحقيقة فالمؤمن في الدُّنْيَا غريب؛ لأنّ أباه إِنَّمَا كان في دار البقاء، ثم أخرج منها، فهمه الرجوع إِلَى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إِلَى وطنه الَّذِي أخرج منه كما يقال: "حب الوطن من الإيمان" (٢).

وكما قيل:

وَكَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي هَذَا المَعْنَى:

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ

وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ


(١) الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه "اللسان" مادة: (رمم).
(٢) نسب هذا القول إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح عنه. انظر "كشف الخفاء" (١/ ٤١٣/١ - ٤١٤)، و"الضعيفة" برقم (٣٦).