للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلذلك قال استلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقف مع شهوات الدُّنْيَا ولذاتها يصعب عليه ترك لذاتها وشهواتها؛ لأنّه لا عوض عنده من لذات الدُّنْيَا إذا تركها، فهو لا يصبر عَلَى تركها.

وهؤلاء في قلوبهم العوض الأكبر بما وصلوا إِلَيْهِ من لذة معرفة الله ومحبته وإجلاله، كما كان الحسن يقول: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم في كلام يطول ذكره هاهنا في هذا المعنى.

وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأنّ الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها، فهي أنسهم وهؤلاء يستوحشون من ذلك، ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته ومحبته وتلاوة كتابه.

والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به.

ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أنهم صحبوا الدُّنْيَا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، وهذا إشارة إِلَى أنهم لم يتخذوا الدنيا وطنًا، ولا رضوا بها إقامة (ومسكنًا) (*)، إِنَّمَا اتخذوها ممرًّا ولم يجلوها مستقرًّا.

وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في جملة وعظه لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (١)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر (٢): «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وفي رواية: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» (٣).


(*) وسكنًا: "نسخة".
(١) غافر: ٣٩.
(٢) أخرجه البخاري (٦٤١٦).
(٣) أخرجها أحمد (٢/ ٢٤) بلفظ: "واعدد نفسك في الموتى".