للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال بعض السَّلف: اعمل للدنيا عَلَى قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة عَلَى قدر مكثك فيها.

وقال بعضهم: لابن آدم بيتان: بيتٌ عَلَى الأرض، وبيتٌ في بطن الأرض، فعمد إِلَى الَّذِي عَلَى وجه الأرض، فزخرفه وزيّنه، وجعل فيه أبوابًا للشمال، وأبوابًا للجنوب، ووضع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثُم عمد إِلَى الَّذِي في بطن الأرض فأخربه؛ فَإِذَا قيل: هذا البيت الَّذِي أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قِيلَ لَهُ: والذي أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي. قال: تقرُّ بهذا عَلَى نفسك وأنت رجلٌ تعقل؟!

كان عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- في المقابر في جنازة ومعه شاب من أقاربه فيه بعض غفلة، فَقَالَ عثمان: اطلع إِلَى بيتك، فاطلع في القبر. فَقَالَ له: ما ترى؟ قال: أرى بيتًا ضيقًا مظلمًا، ليس فيه طعامٌ ولا شرابٌ ولا زوجة، وقد تركت بيتًا فيه طعامٌ وشرابٌ وزوجة، قال: فإن هذا والله بيتك. قال: صدقت، أما والله لو رجعت نقلت من ذلك إِلَى هذا.

قال الحسن: تبع رجلٌ من المسلمين جنازة أخيه، فَلَمَّا دُلي في قبره قال الرجل: ما أرى تبعك من الدُّنْيَا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركتُ بيتي كثير المتاع، أمَا والله إِن أقالني اللهُ حتى أرجع لأقدِّمنَّه بين يدي. قال: فرجع فقدمه -والله- بين يديه، وكانوا يرون أنه كان عمر بن عبد العزيز.

وكان ينشد هذه الأبيات كثيرًا:

من كان حين تصيبُ الشمسُ جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشين والشَّعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثا (١)


(١) الجدث: القبر. "اللسان" مادة: (جدث).