للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال وروينا فيه قصة أخرى عن خوات بن جبير، عن عمر (١) وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح في كتاب الحج، قال فيها خوات. فما زلت أغنيهم، حتى إذا كان السحر. وروي أيضاً (٢) بإسناد صحيح، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مضطجعًا، رافعًا إحدى رجليه عَلَى الأخرى يتغنى بالنصب. وعن أبي مسعود الأنصاري وغيره من المهاجرين والأنصار أنهم كانوا يتغنون بالنصب.

فتبين بهذه الروايات، أن ترخص الصحابة -رضي الله عنهم- إِنَّمَا كان في إنشاد شعر الجاهلية. وفيه من الحكم، وغيرها -عَلَى طريق الحداء ونحوه- مما لا يهيج الطباع إِلَى الهوى. ولهذا كانوا يفعلونه في مسجد المدينة، ولم يكن في شيء من ذلك غزل ولا تشبيب بالنساء ولا وصف محاسنهن، ولا وصف خمر ونحوه مما حرمه الله تعالى.

وقال ابن جريج، سألت عطاء عن الغناء بالشعر. فَقَالَ: لا أرى به بأسًا ما لم يكن فحشًا وهذا يشير إِلَى ما ذكرناه، وعلى مثل ذلك يُحمل ما روي فيه عن عروة بن الزبير، وغيره من التابعين من الرخصة.

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: ما تكره من الشعر؟ قال: الهجاء، والشعر الرقيق الَّذِي يشبب بالنساء، وأما الكلام الجاهلي فما أنفعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ من الشعر لحكمة" (٣).

قال إسحاق بن راهويه كما قال. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع شعر حسان وغيره (٤). واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت (٥). فمن استدل بشيء من ذلك عَلَى إباحة الغناء المذموم فقد غلط.

وقد رُوي المنع من الغناء عن خلق من التابعين فمن بعدهم، حتى قال الشعبي: لُعن المغني والمغنى له.


(١) في "السنن الكبير" للبيهقي (٥/ ٦٨ - ٦٩).
(٢) في "السنن الكبير" (١٠/ ٢٢٤ - ٢٢٥).
(٣) أخرجه البخاري (٦١٤٥).
(٤) أخرجه البخاري (٦١٥٣) من حديث أبي هريرة، ومسلم (٢٢٥٥) من حديث الشريد الثقفي.
(٥) أخرجه البخاري (٦١٤٧).