وكان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وهو من أعلام عُلماء التابعين، وأحد الخلفاء الراشدين المهديين -يبالغ في إنكار الغناء والملاهي، ويذكر أنها بدعة في الإسلام. وكفى بأمير المؤمنين قدوة، وقد كان من هو أسن منه من التابعين يقتدون به في الدين، حتى سُئل ابن سيرين عن بعض الأشربة، فَقَالَ: نهى عنه عمر بن عبد العزيز، وهو إمام هدى.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناد له، أن عمر بن عبد العزيز كتب إِلَى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤهَا من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العِلْم أن حضور المعازف، واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما يُنبت النبتَ الماءُ. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي -في كتابه اختلاف العُلَمَاء- اتفاق العُلَمَاء عَلَى النهي عن الغناء، إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة. وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي، فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها. إِنَّمَا يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية، ممن لا يعتد به.
ومن حكى شيئًا من ذلك عن مالك فقد أبطل، إلا أن مالكًا يرى أن الدف والكَبَر (١) أخف من غيرهما من الملاهي، فلا يرجع لأجلهما من دُعي إِلَى وليمة فرأى فيها شيئًا من ذلك، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فَقَالَ: إِنَّمَا يفعله عندنا الفساق، وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو من علماء أهل المدينة.
فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه، ومنهم القاسم بن محمد وغيره، كما هو قول علماء أهل مكة كمجاهد وعطاء، وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي، وعلماء أهل مصر كالليث بن سعد، وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي حنيفة، ومن قبلهما كالشعبي والنخعي وحماد، ومن قبلهم من التابعين أصحاب ابن
(١) الكَبَر: الطبل ذو الرأسين وقيل: الطبل الَّذِي له وجه واحد، "النهاية" (٤/ ١٤٣).