للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكذلك هؤلاء لا يخرجون بذلك عن دائرة الصلاح، (فإن الجميع) (*) لا يُتبعون في زلاتهم، ولا يُقتدى بهم فيها.

وقول الشافعي: إِنَّ الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن: يدل عَلَى أن الإصرار عَلَى سماع الشعر المُلحَّن -مع الضرب بقضيب ونحوه- يقتضي شغف النفوس بذلك وتعلقها به، ونفرتها عن سماع القرآن، أو عن استجلاب ثمرات القرآن وفوائده وإصلاح القلوب به، وهذا ظاهرٌ بينٌ.

فإن من كان وجده من سماع الأبيات، لا يكاد يجد (رقة ولا حلاوة) (**) عند سماع الآيات، فَإِذَا كان هذا حال من أدمن سماع الأبيات الزهدية بالتلحين، فكيف يكون حال من أدمن سماع أشعار الغزل المتضمن لوصف الخمور، والقدود، والخُدود، والثغور والشعور، مع ذكر الهوى ولواعج الأشواق، والمحبة والغرام والاشتياق، وذكر الهجر والوصال، والتجني والصدود والدلال. وكان هذا كله مع آلات الملاهي المطربة المزعجة للنفوس، المثيرة للوجد، المحركة للهوى، لاسيما إِن كان المغني ممن تميل النفوس إِلَى صُورته وصوته، ووجد السماع حلاوته وذوقه، وطرب قلبُه في ذلك. فإن هذا كما قال ابن مسعود: ينبت النفاق في القلب، ولا يكاد يبقى معه من الإيمان إلا القليل، وصاحبه في غاية من البعد عن الله والحجاب عنه، فإن ادعى من يسمع ذلك أن نفسه ماتت وهواه فني، وأنه إِنَّمَا يُشير بما يسمعه إِلَى معرفة الله، ومحبته وخشيته فهو بمنزلة من ينظر إِلَى الصور الجميلة المفتنة، ويدعي أن فتنته ماتت، وأنه إِنَّمَا ينظر إليها، يعتبر ويستدل بحسن الصنعة وكمالها عَلَى عظمة صانعها وكماله! وكل ذلك محرم بلا ريب، وأكثر من يدعى ذلك كاذبٌ في دعواهُ، ومنهم من هو ملبوس عليه، يشتبه عليه حظ نفسه وهواه بحظ روحه وقلبه، أو يختلط له الأمران فيجتمعان له جميعًا، وهو يظن أن حظ نفسه وهواه فني، وليس كذلك.


(*) وإن كان الجميع: "نسخة".
(**) حلاوة ولا رقة: "نسخة".