ومن أصحابنا من حكي عنه رواية أخرى في الرخصة في سماع القصائد المجردة، وهي اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز وجماعة من التميميين، وهؤلاء يحكى أيضاً عنهم الرخصة في الغناء، وإنما أرادوا سماع هذه القصائد الزهدية المرققة، لم يرخصوا في أكثر من ذلك.
وذكروا أن الإمام أحمد سمع في منزل ابنه صالح -من وراء الباب- منشدًا ينشد أبياتًا من هذه الزهديات، ولم ينكر ذلك، لكن لم يكن مع إنشادها تغبير، ولا ضرب بقضيب ولا غيره.
وفي تحريم الضرب بالقضيب وكراهته وجهان لأصحابنا، فإنه لا يُطربُ كما يطرب سماع آلات الملاهي.
وقد رُوي أيضًا سماع القصائد الزهدية عن يزيد بن هارون، وعن يحيى ابن معين وأبي خيثمة. وعلى مثل ذلك أيضًا يحمل ما نقله الربيع وابن عبد الحكم عن الشافعي في الرخصة في التغبير، وأنه أراد بذلك سماع الأبيات الزهدية المرققة للقلوب، المقتضية للتحزين والتشويق والترقيق إما مع ضرب بقضيب أو بدونه، ولعل الشافعي كره سماع القصائد مع الضرب بالقضيب، ورخص فيه بدونه، فلا يكون له في ذلك قولان مختلفان؛ بل يكونان منزلان عَلَى حالين، وكذلك يزيد بن هارون.
وعلى مثل ذلك أيضًا يُحمل عامة ما (رُوي)(*) عن المتقدمين من الصوفية وغيرهم، في الترخص في السماع والغناء، فإن غناءهم وسماعهم كان لا يزيد عَلَى سماع هذه القصائد، إلا الضرب بالقضيب معها أحيانًا، فَإِذَا كان الشافعي رحمه الله قد أنكر الضرب بالقضيب، وجعله من فعل الزنادقة الصادين عن القرآن، فكيف يكون قوله في آلات اللهو المطربة؟!
وإن كان قد وقع في سماع ذلك طائفة من الصالحين والصادقين بتأويل ضعيف، فلهم أسوة بكثير من العُلَمَاء الذين شذوا عن أهل العِلْم بأقاويل ضعيفة، ولم يقدح ذلك في منازلهم، ولم يُخرجهم عن دائرة العِلْم والدين.