أما بعد، فإني أذكرك بليلةٍ تمخض (١) بالساعة، فصباحها القيامة، يا لها من ليلةٍ ويا له من صباحٍ كان عَلَى الكافرين عسيرًا.
وبكى عمرُ ذات ليلة فاشتد بكاؤه، فلما أصبح قال لغلامه: يا بني، ليس الخير أن يُسمع لك ويُطاع، وإنما الخير أن تعقل عن ربك ثم تطيعه، يا بُني لا تأذن اليوم لأحدٍ عليَّ حتى يرتفع النهار؛ فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهموا عني. فَقَالَ الغلام: بأبي أنت يا أميرَ المؤمنين، رأيتك الليلة بكيتَ بكاءً ما بكيتَ مثله. قال: فبكى ثم قال: يا بني، إني والله ذكرتُ الوقوفَ بين يدي الله -عز وجل- قال: ثم غمي عليه فلم يُفق حتى علا النهار. قال: فما رأيتُهُ بعد ذلك مبتسمًا حتى ماتَ -رحمه الله-.
وجاء أعرابي يومًا إِلَى عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، جاءت بي الحاجَةُ وانتهت الغايةُ، والله سائلك عني يوم القيامة. قال: ويحك! أعدْ عليَّ. فأعاد عليه؛ فنكَّسَ عمر رأسه وأرسل دموعَهُ حتى ابتلَّت الأرض، ثم رفع رأسه فَقَالَ: ويحك كم عيالك وكم أنتم؟ قال: أنا وثلاثُ بنات. ففرض له عَلَى ثلاثماثة وفرض لبناتِهِ عَلَى مائة وأعطاه مائة درهم وقال: هذا من مالي وليس من أموال المسلمين، اذهب فاستنفقها حتى تخرجَ أعطياتُ المسلمين وتأخذَ معهم.
وأتاه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه فَقَالَ: يا أمير المومنين، اذكُر بمقامي هذا بين يديك مقامًا لا يشغل اللهَ -عز وجل- عنه كثرةُ من يتخاصم من الخلائق، يوم تلقاهُ بلا ثقةٍ من العمل، ولا براءةٍ من الذنب. فبكى عمر بكاءً شديدًا ثم قال: ويحك، اردد عليَّ كلامَكَ هذا. فجعل يردِّدُه وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجَتَك؟ قال: إِن عامل أذربيجان عدا عليَّ وأخذ
(١) يقال: تمخضت الليلة عن يوم سوء إذا كان صباحها صباح سوء. "لسان العرب" مادة: (مخض).