للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالات ربه، وعلَّم أمته مناسكهم وعباداتهم، وتركهم عَلَى البيضاء، ليلها كنهارها، ولم يبق له من الدُّنْيَا حاجة، فحينئذ تهيأ للنَّقلة إِلَى الآخرة؛ فإنها خير له من الأولى، ولهذا نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } (١) بعرفة.

وعلَّم الأمة مناسكهم، وقال لهم: "لعلي لا أراكم بعد عامي هذا" (٢).

وقال لهم: "هل بلغت؟ قالوا: نعم"، وأشهد الله عليهم بذلك وودَّع النَّاس، فقالوا: هذه حجة الوداع (٣).

وقد خيَّر - صلى الله عليه وسلم - بين الدُّنْيَا وبين لقاء ربه، فكان آخر ما سُمع منه: "اللهم الرفيق الأعلى" (٤).

ونظير هذا الفهم الَّذِي فهمه عمر من هذه السورة ما فهمه أبو بكر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: "إِنَّ عبدًا خير بين الدُّنْيَا وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه" (٥) وقد سبق من حديث ابن عباس ما يدل عَلَى ذلك.

وفي "صحيح البخاري" (٦) من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رأيتُ أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا جَاءَ نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لاَ.


(١) المائدة: ٣.
(٢) أخرجه مسلم (١٢٩٧).
(٣) أخرجه البخاري (٤٤٠٦)، ومسلم (١٦٧٩).
(٤) أخرجه البخاري (٥٦٧٤، ٥٧٤٣، ٥٧٥٠)، ومسلم (٢١٩١).
(٥) أخرجه البخاري (٣٩٠٤)، ومسلم (٢٣٨٢).
(٦) برقم (٤٩٧٠).