وكان أهل الدراية والفهم من العُلَمَاء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما، وكلام الصحابة والتابعين ما يسره الله له، جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها ويستنبط منها، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان، والكتاب فيه كلمات كثيرة، هي قواعد كلية وقضايا عامة، تشتمل أنواعًا عديدة، وجزئيات كثيرة، ولا يهتدي كل أحد إِلَى دخولها تحت تلك الكلمات؛ بل ذلك من الفهم الَّذِي يؤتيه الله من يشاء في كتابه.
وأما الميزان فهو الاعتبار الصحيح، وهو من العدل والقسط الَّذِي أمر الله بالقيام به، كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع والتفريق بين المختلفين؛ لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق، وكثيرًا ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ويدق فهمه.
وأما أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول، وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم في التفسير والفقه وأنواع العلوم، لم يتصرفوا في ذلك؛ بل نقلوه كما سمعوه، وأدوه كما حفظوه، وربما كان لكثير منهم من التصرف والتميز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده، وروايته ما ليس لغيرهم.
فصل: وكان العِلْم والدين يتلقاه التابع عن المتبوع سماعًا وتعلمًا، وتأدبًا واقتداء.
وكان الحديث يحفظ في القلوب حفظًا، فكان الشيخ يحدث أصحابه من حفظه، وربما حدث من حِفْظِه وكتابه، وأصحابه يسمعون ذلك ويحفظونه عنه وربما كتبوه، ولم تكن الكتب قد صنفت في زمن الصحابة والتابعين، وإنما صنفت بعد ذلك في زمان أتباع التابعين، فصنف ابن جريج في التفسير والحديث والفقه.
وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وصنف مالك، وابن المبارك، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وهشيم، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن وهب، وغيرهم.