للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولهذا كان الصحيح المشهور عن الإمام أحمد، الذي عليه أكثر أصحابه، وأكثر علماء السنة من جميع الطوائف، أن ما في القلب من التصديق والمعرفة يقبل الزيادة والنقصان، فالمؤمن يحتاج دائمًا كل وقت إِلَى تجديد إيمانه وتقوية يقينه، وطلب الزيادة في معارفه، والحذر من أسباب الشك والريب والشبهة، ومن هنا يعلم معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (١)، فإنَّه لو كان مستحضرًا في تلك الحال لاطلاع الله عليه ومقته له مع ما توعده الله به من العقاب المجمل والمفصل استحضارًا تامًّا لامتنع منه بعد ذلك وقوع هذا المحظور، وإنَّما وقع فيما وقع فيه لضعف إيمانه ونقصه.

الوجه الثالث: أن تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل عَلَى أن تصوره لذلك ليس تامًّا، وإن كان قد تصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر به، فَإِذَا أخبر بما هو محبوب أو مكروه له، ولم يكذب الخبر، بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.

وفي الأثر المعروف عن الحسن، ورُوي مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "العِلْم علمان، فعلم في القلب، فذاك العِلْم النافع، وعلم عَلَى اللسان فذاك حجة الله عَلَى ابن آدم" (٢).

الوجه الرابع: أن كثيرًا من الذنوب قد يكون شب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض الله له، وتفاصيل الوعيد عليه، وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه، لكنه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الَّذِي جرأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العِلْم تركه خشية من عقابه.


(١) أخرجه البخاري (٢٤٧٥) وفي مواضع أخر، ومسلم (٥٧) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (٦٧٨٢) وفي مواضع أخر من حديث ابن عباس.
(٢) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (٤/ ٣٤٦)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (١/ ٨٢).