ولهذا فإن القول الصحيح الَّذِي عليه السَّلف وأئمة السنة أنَّه يصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض خلافًا لبعض المعتزلة، فإن أحد الذنبين قد يعلم قبحه فيتوب منه، ويستهين بالآخر لجهله بقبحه وحقيقة مرتبته فلا يقلع عنه، وكذلك قد يقهره هواه، ويغلبه في أحدهما دون الآخر، فيقلع عما لم يغلبه هواه فيه دون ما غلبه فيه هواه.
ولا يقال: لو كانت الخشية عنده موجودة لأقلع عن الجميع؛ لأنّ أصل الخشية عنده موجودة، ولكنها غير تامة، وسبب نقصها إما نقص علمه، وإما غلبة هواه، فنقص توبته نشأ من كون المقتضي للتوبة من أحد الذنبين أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، وكون المانع من التوبة من أحدهما أشد من المانع من الآخر.
الخامس: أن كل من علم علماً تامًّا جازمًا بأن فعل شيء يضره ضررًا راجحًا ولم يفعله فإن هذا خاصة العاقل، فإن نفسه تنصرف عما يعلم رجحان ضرره بالطبع.
فإن الله جعل في النفس حبًّا لما ينفعها، وبغضًا لما يضرها فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل؛ فإن السقوط من موضع عالٍ أو في نهرٍ مغرقٍ، والمرور تحت حائط يخشى سقوطه، ودخول نار متأججة، ورمي المال في البحر ونحو ذلك، لا يفعله من هو تام العقل؛ لعلمه بأن هذا ضررٌ لا منفعة فيه، وإنَّما يفعله من لم يعلم ضرره كالصبي والمجنون والساهي والغافل.
وأما العقل فلا يقدم عَلَى ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر إلا لظنه أن منفعته راجحة إما بأن يجزم بأن ضرره مرجوح، أو يظن أن خيره راجح، كالذي يركب البحر، ويسافر الأسفار الخطرة للربح، فإنَّه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما فعل ذلك، وإنَّما أقدم عليه لترجيح السلامة عنده والربح، وإن كان قد يكون مخطئًا في هذا الظن، وكذلك الزاني والسارق ونحوهما، لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم من الرجم والقطع ونحو ذلك لم يقدموا