وَقِيلَ عَيْنٍ
وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ
ــ
[مغني المحتاج]
«مَا كَفَرَ بِاَللَّهِ نَبِيٌّ <m s= ٣٣٧٥١> قَطُّ» وَفِي عِصْمَتِهِمْ قَبْلَهَا مِنْ الْمَعَاصِي خِلَافٌ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ بَعْدَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِالْمُرُوءَةِ، وَكَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَلَوْ سَهْوًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَأَوَّلُوا الظَّوَاهِرَ الْوَارِدَةَ فِيهَا، وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ صُدُورَهَا عَنْهُمْ سَهْوًا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ: كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَعَبَّدُ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دِينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ انْتَهَى. وَصَحَّحَ الْوَاحِدِيُّ الْأَوَّلَ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ. وَتُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَيْ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ (وَقِيلَ) كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضَ (عَيْنٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: ٤١] {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: ٣٩] ، وَقَائِلُهُ قَالَ: كَانَ الْقَاعِدُونَ حُرَّاسًا لِلْمَدِينَةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعَيُّنِ الْإِجَابَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَنْصَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ. قَالَ شَاعِرُهُمْ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وَقَدْ يَكُونُ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ أَحَاطَ عَدُوٌّ بِالْمُسْلِمِينَ كَالْأَحْزَابِ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِتَعَيُّنِ جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ حَالَانِ، خِلَافَ مَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ.
(وَأَمَّا بَعْدَهُ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ) مُسْتَقِرِّينَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدِينَ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ (فَفَرْضُ كِفَايَةٍ) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ لَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ (إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ) ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَتَعْبِيرُهُ بِالسُّقُوطِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَوْلُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَلَوْ قَامَ بِهِ مُرَاهِقُونَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ أَهْلِ الْفُرُوضِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَسَقَطَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِي بَيَانُهَا.
تَنْبِيهٌ: أَقَلُّ الْجِهَادِ مَرَّةٌ فِي السَّنَةِ كَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: ١٢٦] قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ وَلِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكَذَا بَدَلُهَا، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ، وَأَقَلُّ مَا وَجَبَ الْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. فَإِنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَحْصُلُ فَرْضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute