وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَاضِرُوهُ مَنْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. قُلْت: الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
ــ
[مغني المحتاج]
فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْلِبُوهُ عُمْرَةً وَهُوَ مَعْنَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَمَرَهُمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ مُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ إيقَاعَهَا فِيهِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ كَمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ كَذَلِكَ فَانْتَظَمَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إحْرَامِهِمْ أَيْضًا، فَمَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَارِنِينَ أَوْ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مُفْرِدِينَ أَرَادَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ الَّذِي عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّ الْبَقِيَّةَ مِثْلُهُمْ.
وَأَمَّا تَفْضِيلُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى الْقَارِنِ فَلِأَنَّ أَفْعَالَ النُّسُكَيْنِ فِيهِ أَكْمَلُ كَمَا مَرَّ وَقَوْلُنَا: وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ: أَيْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ فَقَطْ ثُمَّ الْحَجُّ فَقَطْ أَفْضَلُ مِنْ الْعُمْرَةِ فَقَطْ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ وَاعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مَعَ زِيَادَةِ عُمْرَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ إذَا رَجَا الْمَاءَ فَصَلَّى أَوَّلًا بِالتَّيَمُّمِ عَلَى قَصْدِ إعَادَتِهَا بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ، وَهَكَذَا إذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ الْحَجِّ أَيْضًا خُصُوصًا إذَا كَانَ مَكِّيًّا وَعَادَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنَّ فَوَاتَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَإِنَّمَا سَقَطَ الدَّمُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ إتْيَانِهِ بِنُسُكَيْنِ فَقَطْ، وَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ قَدْ أَتَى بِنُسُكٍ ثَالِثٍ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصُّورَةَ الْمُتَكَلَّمَ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَبْرَ دَلِيلُ النُّقْصَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ وُجُوبُ الدَّمِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النُّسُكَ الثَّالِثَ جَبَرَ ذَلِكَ النَّقْصَ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي إفْرَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْكَرَاهَةَ بِضَعْفِهِ عَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَقَالُوا لَوْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَجْبُرُ مَا يَفُوتُهُ.
(وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] وَالْمَعْنَى فِي إيجَابِ الدَّمِ كَوْنُهُ رَبِحَ مِيقَاتًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ لَكَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ. وَإِذَا تَمَتَّعَ اسْتَغْنَى عَنْ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَالْوَاجِبُ شَاةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَيَقُومُ مَقَامَهَا سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ، وَكَذَا جَمِيعُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ إلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٩٦] قَوْله تَعَالَى " ذَلِكَ " أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ فَقْدِهِ.
وَقَوْلُهُ " لِمَنْ " مَعْنَاهُ عَلَى مَنْ (وَحَاضِرُوهُ مَنْ) مَسَاكِنِهِمْ (دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ الْحَرَمُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَمَكَّةُ عِنْدَ آخَرِينَ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَكَّةَ أَقَلُّ تَجَاوُزًا مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ (قُلْت: الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ الْحَرَمُ إلَّا قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute