للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصف بذلك، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه؛ على أنه لا يمتنع أن يكون معنى الرحمة فى الأصل ما ذكرتم (١)، ثم انتقل بالتعارف إلى ما ذكرناه كنظائره. وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى ورحمة من حيث كان نعمة، ولا يتأتّى فى القرآن ما ظنوه (٢)؛ وإنما وصفت رقة القلب بأنها رحمة؛ لأنّها ممّا تجاوره الرحمة التى هى النعمة فى

الأكثر، وتوجد عنده، فحلّ محلّ وصف الشهوة بأنّها محبة لمّا كانت توجد عندها المحبة فى الأكثر؛ وليست الرحمة مختصة بالعفو؛ بل تستعمل فى ضروب النّعم، وصنوف الإحسان؛ ألا ترى أنّا نصف المنعم على غيره، المحسن إليه بالرحمة، وإن لم يسقط عنه ضررا، ولا تجاوز له عن زلّة؛ وإنما سمى العفو عن الضرر وما جرى مجراه رحمة من حيث كان نعمة؛ لأنّ النعمة بإسقاط الضرر تجرى مجرى النعمة بإيصال النفع، فقد بان بهذه الجملة معنى الآية، وبطلان ما ضمنه السائل سؤاله.

فإن قيل: إذا كانت الرحمة هى النعمة، وعندكم أن نعم الله تعالى شاملة للخلق أجمعين، فأىّ معنى لاستثناء مَنْ رَحِمَ من جملة المختلفين إن كانت الرحمة هى النعمة؟ وكيف يصحّ اختصاصها بقوم دون قوم وهى عندكم شاملة عامّة؟

قلنا: لا شبهة فى أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين؛ غير أنّ فى نعمه أيضا ما يختصّ بها بعض العباد (٣)، إما لاستحقاق، أو لسبب يقتضي الاختصاص/ فإذا حملنا قوله تعالى:

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ على النعمة بالثواب، فالاختصاص ظاهر، لأن النعمة به لا تكون إلا مستحقّة، فمن استحقّ الثواب بأعماله وصل إلى هذه النعمة، ومن لم يستحقّه لم يصل إليها.

وإن حملنا الرحمة فى الآية على النعمة بالتوفيق للايمان واللطف الّذي وقع بعده فعل الإيمان كانت هذه النعمة أيضا مختصّة، لأنّه تعالى إنما لم ينعم على سائر المكلّفين بها؛ من حيث


(١) ت، حاشية الأصل (من نسخة): ما ذكر.
(٢) س: «قالوه».
(٣) ت: «الخلق».