للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسألة]

إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؛ [البقرة: ٥٤].

فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم بقتل أنفسهم، والعبادة بذلك لا تحسن إلا أن تكون مصلحة لهذا المكلّف فى دينه؛ إما بأن يفعل طاعة أو يمتنع من قبيح؛ وهو بعد الموت قد خرج من كلّ تكليف، فلا يصحّ منه شيء من الأفعال!

الجواب، إن المفسرين قد اختلفت أقوالهم فى هذه الآية.

فمنهم من ذهب إلى أنه تعالى كلّفهم أن يقتلوا أنفسهم القتل الحقيقىّ المعهود.

ومنهم من ذهب إلى أنه تعالى كلّفهم أن يقتل بعضهم بعضا.

ومنهم من حمل الآية على أن المراد بها تكليف الاستسلام للقتل؛ ويقول: إنهم استحقوا بعبادة العجل القتل، فلما تابوا أمرهم الله تعالى بأن يستسلموا لمن يقتلهم؛ كما كلف الله القاتل لغيره أن يستسلم للقود منه.

فأما الوجه الأول فيبطل بما ذكر فى السؤال؛ ولا يجوز أن يكون وجه حسن هذا التكليف المصلحة لغير المقتول؛ لأنّ مصلحة زيد لا تكون وجها فى وجوب الفعل على عمرو؛ ولا يمكن أن يقال: إنّ مصلحة المأمور بقتل نفسه فى نفس الأمر والتكليف قبل أن يقتل نفسه؛ فإن ذلك ربما كان لطفا له فى بعض العبادات؛ وذلك لأن الأمر بما ليس له وجه وجوب أو ندب لا يحسن؛ بل يكون الأمر قبيحا؛ وإذا كان الأمر قبيحا لم يحسّنه أن يكون فيه لطف لبعض المكلّفين؛ بل يمنع منه كما يمنع من أن يلطف لبعض المكلّفين بما هو قبيح فى نفسه؛ فلم يبق بعد إبطال هذا الوجه إلا الوجهان الأخيران؛ من الاستسلام لمن يقتلهم القتل الّذي استحقوه، أو قتل بعضهم بعضا؛ فقد روى أنهم برزوا بأسيافهم؛ واصطفّوا صفين يضرب بعضهم بعضا، فمن قتل منهم كان شهيدا، ومن نجا كان تائبا.