قال رضى الله عنه: قد طعن من لا تأمّل له على استدلالنا على أنّ الأفعال الظاهرة فينا من قيام وقعود وأكل وشرب وما جرى مجرى ذلك متعلّقة بنا، وحادثة من جهتنا بوجوب (١) وقوعها بحسب قصودنا وأحوالنا ودواعينا بأن قال:
كيف يجوز أن تدّعوا العلم الضرورىّ بوجوب وقوع أفعالكم بحسب أحوالكم؟
وإنما تشيرون بالوقوع إلى الحدوث.
وإذا كان حدوث هذه الأفعال لا يعلم ضرورة؛ وإنما يعلم بدقيق الاستدلال والنظر، فكيف يجوز أن تعلموا حكم الذات ضرورة، وأنتم تعلمون تلك الذات بدليل؟ والعلم بالذات أصل للعلم بالأحكام؛ ولا يجوز أن يكون العلم بالأصل مستدلّا عليه، والعلم بالفرع ضروريا.
*** والجواب عن ذلك أنّ الوجوب أو الجواز حكم للأحوال الموجبة عن الأفعال التى هى ذوات حادثة؛ ونحن نعلم كون الجسم منتقلا وكائنا فى جهة من الجهات ضرورة؛ وإن كنّا لا نعلم الكون الّذي فيه إلا بدلالة، والوجوب حكم لكونه كائنا، وليس بحكم للكون الّذي هو الذات، فما علمنا على هذا التقرير الأصل والفرع إلا ضرورة، وهذان
العلمان منفصلان عن العلم بالذات الّذي يحتاج فيه إلى الدلالة.
ألا ترى أن الشيوخ نصّوا فى كتبهم على أن المدرك منّا للجوهر يعلم ضرورة عند الإدراك كونه متحيزا، وكونه فى جهة مخصوصة، وكونه موجودا! ونصّوا على أنّ هذه العلوم ضرورية وواقعة عند الإدراك؛ وإن كان الإدراك لا يتناوله إلا كونه متحيّزا دون ما عدا هذه الصفة، فكيف يشكل هذا الّذي ذكرناه، ومعلوم أن نفاة الأعراض من الموحدين والملحدين يعلمون كون الجسم متحركا أو ساكنا، وقريبا أو بعيدا ضرورة، ويعلمون كون أحدنا قائما أو قاعدا، أو آكلا أو شاربا كذلك؛ ويعلمون ما هو واجب من هذه الأحوال أو واجب فى الموضع الّذي تجب فيه، أو يجوز ضرورة.