وإن كانوا لا يثبتون المعانى التى هى الأعراض، ولا يعرفونها، فكيف يشكل على متأمّل أن الأحكام التى أشرنا إليها وادّعينا وجوبها على بعض الوجوه ليست أحكاما للمعانى التى لا تعلم إلا بالدلالة وإنما هى أحكام للأحوال المعلومة أيضا ضرورة، وأن ما علمناه ضرورة حكم لأمر نعلمه أيضا ضرورة.
ومن حمل نفسه أن يخالف فى وجوب ما ذكرناه دافع للضرورة؛ لأن العلم بما ذكرناه من أوضح الضرورات. والفرق بين وجوب كون أحدنا آكلا وقد اشتد جوعه وارتفعت الموانع عنه- وهو صحيح سليم- وبين وجوب آكله إذا جاع غيره معلوم ضرورة؛ وآخر ما يبدأ به العقل.
وإذا كان الفرق الّذي ذكرناه معلوما ثبت ما هو مستند إليه من الوجوب عند قوة الدواعى وخلوصها.
والمعارضة على هذه الطريقة بوجوب الشّبع عند الأكل، والسّكر عند شرب الخمر، وما جرى مجرى ذلك غير صحيح، لأنه لا وجوب فى سائر ما ذكرناه، ألا ترى أن فى الناس من يشبع باللّقمة، وفيهم من لا يشبع بأكل العجنة (١)، وكذلك فى السّكر والرّىّ.
ولما استند ذلك إلى العادة جاز أن يختلف بالأشخاص والأحوال، ولما استند ما ذكرناه من الوجوب إلى غير العادة كان مستمرا فى كل شخص، وعلى كل حال، وعلى كل وجه وسبب، فأين أحد الأمرين من الآخر!