للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحسد الفرزدق على الشعر وإعجابه بجيده من أدلّ دليل على حسن نقده له وقوة بصيرته فيه، وأنّه كان يطرب للجيّد منه فضل طرب، ويعجب منه فضل عجب. ويدلّ أيضا على إنصافه فيه، وأنه مستقلّ للكثير الصادر من جهته، فإن كثيرا من الناس قد يبلغ بهم الهوى فى الإعجاب والاستحسان لما يظهر منهم فى شعر أو فضل إلى أن يعموا عن محاسن غيرهم فيستقلّوا منهم الكثير، ويستصغروا الكبير.

[خبره عند سليمان بن عبد الملك]

ولأبيات الفرزدق التى ذكرناها خبر مشهور متداول، أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة عن يونس قال:

دخل الفرزدق على سليمان (١) بن عبد الملك وعنده نصيب الشاعر، فقال له سليمان أنشدنى، فأنشده الأبيات التى تقدم ذكرها، فاسودّ وجه سليمان وغاظه/ فعله، وكان يظن أنه ينشده مديحا له، فلمّا رأى نصيب ذلك قال: ألا أنشدك؟ فأنشده:


-
دار التى تركتك غير ملومة ... دنفا فإن لم ترع قلبك فاشفق
قد كنت قبل تتوق من هجرانها ... فاليوم إذ شحط المزار بها تق
والحبّ فيه حرارة ومرارة ... سائل بذلك من تطعّم أو زقى
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
حتى بلغ إلى قوله:
من قال بت أخا الهموم ومن يبت ... غرض الهموم ونصبهنّ يؤرّق
بشّرت نفسى إذ رأيتك بالغنى ... ووثقت حين سمعت قولك لى ثق
فأمر بالخلع عليه حتى استغاث؛ فقال: أتاك الغوث، ارفعوا عنه».
(١) حاشية ف: «قيل: بينما سليمان بن عبد الملك فى المسجد الحرام إذ أتى بحجر منقوش، فطلب من يقرؤه، فأتى بوهب بن منبه؛ فقرأه فإذا فيه: ابن آدم إنك لو أبصرت قليل ما بقى من أجلك لزهدت فى طول أملك، ولرغبت فى الزيادة من عملك؛ ولقصرت عن حرصك وحيلك؛ وإنما يلقاك غدا ندمك، وقد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك؛ فبان منك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب؛ فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا فى حياتك ذائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة فبكى سليمان».