للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إليه نفسه؛ ومعلوم أن التاجر لم يرد فى الحقيقة شيئا، ولا العليل (١) أيضا، لكن لمّا كان المعلوم من حال هذا الخسران، ومن حال هذا الهلاك حسن هذا الكلام، واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه (٢). وكلام العرب وحى وإشارات واستعارات ومجازات (٣). ولهذه الحال كان كلامهم فى المرتبة العليا من الفصاحة؛ فإنّ الكلام متى خلا من الاستعارة (٤)، وجرى كلّه على الحقيقة كان بعيدا من الفصاحة، بريّا من البلاغة، وكلام الله تعالى أفصح الكلام.

/ والوجه الرابع: أن تحمل الآية على التّقديم والتأخير؛ فيكون تلخيصها: إذا أمرنا مترفى قرية بالطاعة فعصوا واستحقوا العقاب أردنا إهلاكهم؛ والتقديم والتأخير فى الشعر وكلام العرب كثير. ومما يمكن أن يكون شاهدا

لصحة هذا التأويل من القرآن قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: ٦]، والطهارة إنّما تجب قبل القيام إلى الصلاة، وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: ١٠٢]، وقيام الطائفة معه يجب أن يكون قبل إقامة الصلاة؛ لأن إقامتها هى (٥) الإتيان بجميعها على الكمال.

فأما قراءة من قرأ الآية بالتّشديد فقال: أَمْرِنا (٦)، وقراءة من قرأها بالمدّ


(١) كذا فى الأصل، د، وحاشية ت (من نسخة)، وفى ت، ف: «المريض».
(٢) فى حاشيتى الأصل، ت: «تصوير المجاز فى الآية على أن التقدير: إذا قرب هلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا؛ وكذلك قولهم: إذ أراد المريض ... التقدير: إذا قرب موت المريض خلط، وكذلك التاجر إذا قرب افتقاره أتته النوائب؛ وهذا كقوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ؛ أى يقرب أن ينقض؛ وإنما كنى بالإرادة عن القرب فى هذه المواضع لأن المريد للشيء، المخلى بينه وبينه- ولا مانع هناك- ما أقرب ما يقع مراده، والله أعلم».
(٣) حاشية الأصل: «الإرادة قد تستعمل فى الجماد فضلا عن العقلاء؛ كقوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ؛ وكقول الراعى النميرى:
فى مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردن نصولا.
(٤) كذا فى الأصل، وحاشية ت (من نسخة)، وفى ت: «وإن كان الكلام متى خلا من الاستعارة»، وفى ف: «فإن كان الكلام متى خلا من الاستعارات».
(٥) حاشية ت (من نسخة): «هو الإتيان».
(٦) هى قراءة شاذة، عن أبى عثمان النهدى، والليث عن أبى عمرو، وأبان عن عاصم. (وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه ٧٥)