والنعمة، وذلك معروف فى اللغة، متظاهر فى كلام العرب وأشعارهم.
ويشهد له من الكتاب قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٦٩]، ولا معنى لذلك إلّا الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة فى الحقوق؛ وترك الإسراف، إلى القصد والتوسط.
ويمكن أن يكون الوجه فى تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا ونعم الآخرة؛ لأن الكل- وإن كانت نعم الله
تعالى- فمن حيث اختص كلّ واحد من الأمرين بصفة تخالف صفة الآخر صارا كأنهما جنسان أو قبيلان.
ويمكن أيضا [أن يكون بتثنية النعمة](١) أنه أريد بها النعم الظاهرة والباطنة.
فأما قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، ففيه وجوه:
أوّلها: أن يكون ذلك على غير سبيل الدّعاء؛ بل على جهة الإخبار منه عز وجل عن نزول ذلك بهم؛ وفى الكلام ضمير «قد» قبل قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، وموضع غُلَّتْ نصب على الحال، كأنّه تعالى قال: وقالت اليهود كذا وكذا؛ فى حال ما غلّ الله تعالى أيديهم ولعنهم، أو حكم بذلك فيهم؛ ويسوغ إضمار «قد» هاهنا كما ساغ فى قوله عز وجل: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [يوسف: ٢٦، ٢٧] والمعنى: فقد صدقت، وقد كذبت.
وثانيها أن يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم، أو وغلّت أيديهم، وأضمر تعالى الفاء والواو؛ لأنّ كلامهم تمّ، واستؤنف بعده كلام آخر؛ ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجرى مجرى هذا الموضع؛ من ذلك قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: ٦٧] أراد:
(١) حاشية الأصل (من نسخة): «يكون المراد بتثنيته النعمة».