فإنه دعا للبشام- وهو شجر- بالسّقى؛ لأنها ودعته عنده، فسر بتوديعها، وقول الشاعر:
من يكن يكره الفراق فإنى ... أشتهيه لموضع التّسليم
إنّ فيه اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم
فمن شأن الشعراء أن يتصرّفوا فى المعانى بحسب أغراضهم وقصودهم، فإذا رأى أحدهم مدح/ شيء قصد إلى
أحسن أوصافه فذكرها، وأشار بها؛ حتى كأنه لا وصف له غير ذلك الوصف الحسن؛ وإذا أراد ذمّه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها؛ حتى كأنه لا شيء فيه غير ذلك؛ وكلّ مصيب بحسب قصده.
ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر ما فيه من وقار وخشوع، وأن العمر معه أطول، وما أشبه ذلك، ويقصد إلى ذمه فيصف ما فيه من الإدناء إلى الأجل، وأنه آخر الألوان وأبغضها إلى النساء؛ وما أشبه ذلك؛ وهذه سبيلهم فى كل شيء وصفوه؛ ولمدحهم موضعه، ولذمهم موضعه؛ فمن ذمّ الوداع لما فيه من الإنذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا؛ كما أنّ من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه- وإن كان يسيرا- قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.
ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون، قال: وهذا هو الأصل، ثم استعاره الناس من بعد؛ فقال الشاعر:
وهذا الشعر للمرقّش الأكبر؛ وهو والمرقّش الأصغر جميعا كانا على عهد مهلهل بن ربيعة، وشهدا حرب بكر بن وائل، فكيف يكون قول المرقّش الأكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة!