يقال: جئتك بكذا، ومن بلد كذا؛ وأما الثالثة فبمعنى التفسير والتمييز، لأن الجبال تكون أنواعا فى ملك الله تعالى؛
فجاءت مِنْ لتمييز البرد من غيره؛ وتفسير معنى الجبال التى أنزل منها. وقد يصلح فى مثل هذا الموضع من الكلام أن يقال:«من جبال فيها برد» بغير «من»، يترجم برد عن جبال؛ لأنها مخلوقة من برد، كما يقال: الحيوان من لحم ودم، والحيوان لحم ودم؛ ب «من» وبغير «من»".
ووجدت على بن عيسى الرّمانىّ يقول فى تفسيره: " إن معنى مِنْ الأولى ابتداء الغاية؛ لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية للتبعيض؛ لأن البرد بعض الجبال التى فى السماء، والثالثة لتبيين الجنس؛ لأنّ جنس الجبال جنس البرد".
وهذه التفاسير على اختلافها غير شافية ولا كافية؛ وأنا أبيّن ما فيها من خلل، ثم أذكر ما عندى أنّه الصحيح:
أمّا من جعل فى السماء جبال برد، أو ما مقداره مقدار الجبال- على اختلاف عباراتهم- فيدخل عليه أن يبقى عليه قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ بغير مفعول؛ ولا ما يتعلق به؛ لأنّ تقدير الكلام على هذه التفاسير: وينزّل من جبال برد فى السماء؛ فما الشيء الّذي أنزل به! فما تراه مذكورا فى الآية؛ والكلام كلّه خال منه على هذا التأويل.
فأما أبو مسلم فيلزمه هذا الكلام بعينه، ويلزمه زائدا عليه أنه جعل الجبال اسما للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولا مستحجرا.
وهذا غلط؛ لأن الجبال وإن كانت فى الأصل مشتقة من الجبل والجمع فقد صارت اسما لذى هيئة مخصوصة.
ولهذا لا يسمّى أحد من أهل اللغة كلّ جسم ضمّ بعضه إلى بعض- مع استحجار أو غير استحجار- بأنه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلا أجساما مخصوصة.
وليس يمتنع فى اللغة هذا؛ لأنّ اسم الدابة وإن كان مشتقا فى الأصل من الدبيب؛ فقد صار اسما لبعض ما دبّ، ولا يعم كلّ ما وقع منه الدبيب.