محنته رحمه الله: قال محمد بن جرير: كان مالك قد ضرب بالسياط واختلف في سبب ذلك، حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا ابن ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكاً عن الحديث: (ليس على مستكره طلاق)، وهو أن طلاق المكره ليس بشيء؛ لأنه يقاس على ذلك أن بيعة المكره ليست بشيء، فلو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية.
يقول: ثم دس إليه من يسأله على رءوس الناس فضربه بالسياط.
وعن فضل بن زياد القطان قال: سألت أحمد بن حنبل من ضرب مالك بن أنس؟ قال: ضربه بعض الولاة لا أدري من هو، إنما ضربه في طلاق المكره، كان لا يجيزه فضربه لذلك.
وعن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن راشد قال: سمعت أبا داود يقول: ضرب جعفر بن سليمان مالك بن أنس في طلاق المكره.
وحكى له بعض أصحاب ابن وهب أن مالك بن أنس لما ضرب حلق وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك، فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء، قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه، أنزلوه.
وروى ابن سعد عن الواقدي قال: لما دعي مالك وشور وسمع منه وقبل قوله حسد وبغوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف بطلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال: فغضب جعفر فدعا بـ مالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو.
قال الذهبي رحمه الله: هذه ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال هي بما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير، (ومن يرد الله به خيراً يصب منه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل قضاء المؤمن خير له) وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد:٣١]، وأنزل تعالى في واقعة أحد قوله:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}[آل عمران:١٦٥].
وقال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى:٣٠]، فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.