[عبادة الفضيل بن عياض وخشيته]
عبادته وخشيته رحمه الله: عن إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: ما رأيت أحداً أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل.
وكانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترتلة، كأنه يخاطب إنساناً.
وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل.
وكانت أكثر صلاته بالليل قاعداً، يلقى له الحصير في مسجده فيصلي من أول الليل ساعة ثم تغلبه عيناه، فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم، وهكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام.
وأشد العبادة ما كان هكذا، أن الإنسان كلما وجد خفة ونشاطاً يصلي فإذا غلبه النوم أخذ قسطاً من الراحة، ثم يقوم يصلي وهكذا طوال الليل.
فهذا أشد العبادة.
يقول: وكان صحيح الحديث، صدوق اللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث، وكان يثقل عليه الحديث جداً، وربما قال لي: لو أنك طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي كان أحب إلي من أن تهب لي عددها دنانير، قال: إنك مفتون، أما والله! لو عملت بما سمعت لكان لك في ذلك شغل عما لم تسمع.
سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك متى تشبع؟ إشارة إلى أن من يسمع الحديث ويحفظه ولا يعمل به يشبه من أمامه طعام فهو يأخذ اللقمة ويرمي بها خلف ظهره.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل بن عياض، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به الخوف والحزن، وفاضت عيناه حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله بعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره.
وقال أيضاً عنه: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي، كأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس كأنه بين الموتى -من الحزن والبكاء-، حتى يقوم وكأنه يرجع من الآخرة يخبر عنها.
وعن سفيان بن عيينة قال: ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وابنه علي بن الفضيل.
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
لما مات سفيان قالوا: مات الورع، وهنا يقولون: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: قال لي المأمون: قال لي الرشيد: ما رأت عيناي مثل الفضيل بن عياض، دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار.
والحزن يكون على الشيء الماضي، وهو ليس من مقامات العارفين، فهو هنا محمول على الحزن على ما فرط من الإنسان، يعني: من المعاصي، أو الحزن على ما يصيب المسلمين وما وصل إليه الإسلام في ديار المسلمين، فهذا هو الحزن الذي يمدح، وأما الحزن على الدنيا فلا يمدح، والخوف يكون على الشيء المستقبل، ففرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار.
وعن ابن أبي عمر قال: ما رأيت بعد الفضيل أعبد من وكيع.
وستأتي ترجمة وكيع إن شاء الله تعالى، وهو إمام الكوفة، ولما مات سفيان جلس وكيع في مجلسه، وكان عظيماً سمين الجسم، ولما دخل على الفضيل أنكر عليه هذا السمن، وقال: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟ فقال: من فرحي بالإسلام.
ويحكي ابنه أنه كان يأكل عشرة أرطال ويشرب مثلها من النبيذ، ولكنه كان يوالي الصيام، وكذلك القيام.
عن ابن المبارك قال: إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقت نفسي.