للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اتباع أبي حنيفة للسنة]

عن سعيد بن سالم البصري قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً؟ قلت: نعم، قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بذنب، قال: فقال لي عطاء: عرفت فالزم.

قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي: اعلم أنه يتعين عليك ألا تفهم من أقوال العلماء عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم أصحاب الرأي أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدمون رأيهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على قول أصحابه؛ لأنهم براء من ذلك، فقد جاء عن أبي حنيفة من طرق كثيرة ما ملخصه: أنه أولاً يأخذ بما في القرآن، فإن لم يجد فبالسنة، فإن لم يجد فبقول الصحابة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن والسنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم.

-يعني: أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين فلا بد أن يكون الحق منحصراً في القولين، لا يكون هناك قول ثالث؛ لأن الحق لا يضيع في الأمة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن أو السنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم.

ثم قال: فإن لم يجد لأحد منهم قولاً لم يأخذ بقول أحد من التابعين، بل يجتهد كما اجتهدوا.

فكان رحمه الله لا يقدم رأيه على القرآن والسنة ولا على كلام الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا فيتخير من أقوالهم الأقرب إلى الكتاب والسنة، وهو أحد التابعين وإن كان من صغارهم فكان يجتهد ويقول: هم رجال ونحن رجال، لأنه ولد سنة (٨٠) هـ فهو قريب من عصر النبوة.

وقال الفضيل بن عياض: إن كان في المسألة حديث صحيح تبعه، وإن كان عن الصحابة أو التابعين فكذلك، وإلا قاس فأحسن القياس.

وقال ابن المبارك رواية عنه: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة اخترنا ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.

وعنه أيضاً: عجباً للناس! يقولون: أفتى بالرأي وما أفتى إلا بالأثر.

وعنه أيضاً: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع ما أجمع عليه الصحابة، وأما ما اختلفوا فيه فنتخير من أقوالهم أقربه إلى كتاب الله تعالى أو إلى السنة ونجتهد، وما جاوز ذلك فالاجتهاد بالرأي لمن عرف الاختلاف وقاس، وعلى هذا كانوا.

يعني: فلا يجوز القياس مع وجود النص؛ لأن القياس كأكل الميتة للمضطر، فإذا لم يوجد في المسألة نص من الكتاب أو السنة فينظر في إجماع الصحابة، فإن كانت المسألة غير منصوصة فالقياس يلجأ إليه عند الاضطرار، وكل قياس مهما كان حسناً من حيث النظر إذا صح الحديث بخلافه فهو مردود بالقادح من مسمى فساد الاعتبار.

<<  <  ج: ص:  >  >>