إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد.
فما زلنا -بحمد الله تعالى- في هذه الجولة المباركة مع العلماء الأعلام والأئمة الكرام، نسعد بصحبتهم ونأخذ من هديهم وننهل من بركة علمهم وعملهم في سلسلة التراجم التربوية من أعلام السلف.
والعالم الذي نتشرف بترجمته اليوم عالم زمانه والمقتدى به في أوانه، سيد من سادات العلماء العاملين والعباد المجتهدين، إنه عالم الكوفة وشيخها سفيان بن سعيد الثوري من بيت خير وعلم وفضل، فأبوه من كبار الثقات بالكوفة، وإخوته من العلماء الأفذاذ، فرحمة الله على الجميع.
والدارس لتراجم العلماء يرى حاجة الطلاب إلى دراستها، والانتفاع ببركتها، إلا أنها كسائر العلوم المدونة تحتاج إلى تصفية، فقد يكون فيها شيء من الغلو أو العصبية المذهبية، أو الحكايات الملفقة والأخبار المزوقة التي تخالف روح الشرع المتين، وتنادي على نفسها بالوضع، فمن ذلك ما أتى في ترجمة هذا الحبر: أنه عندما طلبه أبو جعفر لاذ بالبيت، وقال -ومعاذ الله أن يُنسب ذلك إليه-: أكون بريئاً منك إذا دخل أبو جعفر مكة، فمات أبو جعفر قبل أن يدخلها.
فأمثال هذه الحكايات إن قصد بها بيان كرامة سفيان رحمه الله ففيها نسبة سوء الأدب إليه، فهو في الخشية والورع والأدب بمكانة، فنحن نقتصر على الأخبار التي تنشّط الهمم وتشحذ العزائم على الاجتهاد في الطاعة والزهد والورع والخشية، وإمامنا في هذه الرسالة أستاذ هذه الصنعة، وقد جمع بين العلم والعمل والشجاعة في الجهر بكلمة الحق.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، وحصل الإجماع على إمامته بحيث يُستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد.
وقال ابن مهدي: ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه.
وقد قال بعض السلف: على قدر محبتك لله عز وجل يحبك الخلق، وعلى قدر خشيتك من الله عز وجل يهابك الخلق، وعلى قدر انشغالك بالله عز وجل تشغل الخلق بأشغالك.