للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مرض الإمام الشافعي ووفاته]

مرضه رحمه الله ووفاته: قال الربيع بن سليمان: أقام الشافعي هاهنا أربع سنوات، فأملى (١٥٠٠) ورقة، وخرج كتاب (الأم) (٢٠٠٠) ورقة، وكتاب (السنة) وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، يكاد ربما يخرج الدم منه وهو راكب، حتى تمتلئ سراويله ومركبه وخفه.

كان عنده بواسير رحمه الله، والبواسير عندما تنزف دماً تكون متقدمة.

وعن يونس بن عبد الأعلى قال: ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي، فدخلت عليه يوماً فقال لي: يا أبا موسى! اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من آل عمران: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:١٢١] إلى آخر السورة، وأخف القراءة، ولا تثقل.

فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: لا تغفل عني، فإني مكروب.

قال يونس عنى الشافعي بقراءتي بعد العشرين والمائة ما لقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو نحوه؛ ليتأسى بهم، والإنسان يتصبر بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في غزوة أحد.

وعن الربيع قال: دخل المزني على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله تعالى وارداً، ولسوء عملي ملاقياً، ثم رمى بطرفه نحو السماء واستعبر، ثم أنشأ يقول: إليك إله الخلق أرفع رغبتي وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما ما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما ولولاك لا يقوى بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فإن تعف عني تعف عن ذي إساءة ظلوم غشوم قاسي القلب مجرما وإن تنتقم مني فلست بآيس ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما فجرمي عظيم من قديم وحادث وعفوك يا ذا العفو أعلى وأجسما قال الربيع بن سليمان: لما كان مع المغرب ليلة مات الشافعي قال له ابن عمه ابن يعقوب: ننزل نصلي؟ قال: تجلسون تنتظرون خروج نفسي؟ قال: فنزلنا ثم صعدنا فقلنا: صلينا أصلحك الله.

قال: نعم.

فاستسقى وكان شتاء، فقال له ابن عمه: أمزجه بالماء المسخن فقال الشافعي: لا، بل بلب السفرجل، وتوفي مع العشاء الآخرة رحمه الله.

قال الربيع بن سليمان: توفي الشافعي رحمه الله ورضي عنه ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب، فانصرفنا من جنازته ورأينا هلال شعبان سنة (٢٠٤)، وهو ابن أربع وخمسين سنة.

وعن أبي زكريا يعني: الأعرج قال: سمعت الربيع يقول: رأيت في المنام أن آدم مات، ويريدون أن يخرجوا بجنازته، فلما أصبحت سألت بعض أهل العلم عن ذلك فقال: هذا موت أعلم أهل الأرض، إن الله عز وجل علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسيراً حتى مات الشافعي رحمه الله، وغربت بذلك شمس حياته، ولكن محبة هذا الإمام وبركة علمه ومصنفاته تملأ طباق الأرض، فما من صاحب محبرة إلا وللشافعي عليه منة.

فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا وله، وأن يمن علينا وعليه بأعلى الدرجات، والله عز وجل يغفر لنا تقصيرنا في ترجمته، وأن يمتعنا في الآخرة بصحبته، ويدخلنا وإياه فسيح جنته.

وهذا أوان ترك القلم في ترجمة هذا العلم، فالقلوب تشتاق إلى صحبته والتمتع بكمال عقله ووفور فطنته وبركة كلماته.

وصل اللهم وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وآل بيته الطيبين، وأصحابه الغر الميامين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>