[قصة دخول الزهري على بني أمية وعدم مداهنته في الحق]
كان بعض العلماء يمنع من الدخول على الأمراء، وينصح من أراد أن يأمرهم أن يأمرهم من بعد، يعني: خشية أن يميل قلبه إليهم، ومنهم من كان يرى الدخول عليهم لنصحهم، فمن الذين كانوا يرون الدخول عليهم الإمام مالك، ولما قيل له: إنك تغشى الأمراء وتدخل عليهم وهم يفعلون كذا وكذا، فقال: يرحمك الله! فأين الجهر بالحق؟ فكان لدى العلماء قوة في الجهر بالحق، من هؤلاء أيضاً الإمام الزهري، كان قريباً من أمراء بني أمية، ولم يكن يداهنهم، بل يجهر أمامهم بكلمة الحق.
قال ابن أبي ذئب: ضاقت حال الزهري ورهقه دين، فخرج إلى الشام فجالس حويصة بن ذؤيب.
قال ابن شهاب: فبينما نحن معه نسمر إذ جاءه رسول لـ عبد الملك بن مروان، فذهب به إليه ثم رجع، فقال: من منكم يحفظ قضاء عمر في أمهات الأولاد؟ قلت: أنا.
قال: قم، فدخلنا على عبد الملك، فإذا هو جالس على نمرقة بيده مخصرة وعليه غلالة ملتحف بسبيبة بين يديه شمعة.
قال: من أنت؟ فانتسبت له -ذكر نسبه- فقال: إن كان أبوك لنعاراً في الفتن -أي: يثير الفتن على الدولة الأموية -قلت: يا أمير المؤمنين! عفا الله عما سلف.
قال: اجلس: فجلست.
قال: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم.
قال: اقرأ من سورة كذا ومن سورة كذا فقرأت، فقال: أتفرض؟ -يعني: أتعلم علم الفرائض؟ - قلت: نعم.
قال: فما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها؟ قلت: لزوجها النصف ولأمها السدس ولأبيها ما بقي، قال: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، إنما لزوجها النصف ولأمها ثلث ما بقى.
هات حديثك.
قلت: حدثني سعيد بن المسيب فذكر قضاء عمر في أمهات المؤمنين، فقال: وهكذا حدثني سعيد.
وذلك لأن عبد الملك بن مروان كان يتعلم من سعيد بن المسيب، ولكن لما ولي الخلافة بعد وفاة أبيه شغل عن ذلك بالملك وترك طلب العلم.
فقال: هكذا حدثني سعيد.
فقلت: يا أمير المؤمنين! اقض ديني، قال: نعم.
قال: وتفرض لي؟ يعني: تجعل لي راتباً ثابتاً، قال: لا، والله! ما نجمعهما على أحد، قال: فتجهزت إلى المدينة.
قال الشافعي: حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال هشام: يا سليمان! من الذي تولى كبره منهم؟ قال: عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال: كذبت، هو علي، فدخل ابن شهاب فسأله هشام فقال: هو عبد الله بن أبي، قال: كذبت، هو علي.
فقال الإمام الزهري: أنا أكذب؟ لا أب لك، فوالله! لو نادى منادٍ من السماء: إن الله أحل الكذب، ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد الله وعلقمة بن وقاص عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي.
قال: فلم يزل القوم يغرون به، فقال له هشام: ارحل، فوالله! ما ينبغي لنا أن نحمل عن مثلك.
قال: ولمَ، أنا اغتصبتك على نفسي أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخل عني.
فقال له: لا، ولكن استدنت ألفي ألف، فقال: قد علمت وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك.
قال هشام: إنا لن نهيج الشيخ، فأمر فقضي عنه ألف ألف، فأخبر بذلك فقال: الحمد لله الذي هذا هو من عنده.
فهذه بعض الأخبار التي تدل على أنه كان يجهر بكلمة الحق مع قربه من الحكام والأمراء.