عليها بذلك، فبكى وخرج عَلَى وجهه، وهم أن يغرق نفسه في دجلة، ثم خاف عقاب الله فامتنع، وخرج ماشيًا عَلَى قدميه من قرية إِلَى قرية حتى بلغ خراسان، فأقام بها واكتسب بها مالا، وكتب إِلَى بلده ستة وستين كتابًا ليتعرف خبر الجارية، فلم يعد إليه الجواب فلم يشك أنها ماتت.
ثم رجع إِلَى بغداد بعد مدة طويلة، ومعه مال قيمته عشرون ألف دينار، فخرج عَلَى قافلته اللصوص فأخذوا ما معه كله، وعاد بثيابه فقيرًا، ولم يزل يتوصل حتى دخل بغداد فقيرًا كما خرج منها بعد أن غاب عنها قريبًا من ثلاثين سنة، فقصد داره فوجدها عامرة وبابها حسن، وعليه بواب وغلمان وبغال، فسأل عن الدار: لمن هي؟! فقيل: هي لابن فلان الصيرفي -وسموا الرجل باسمه- قالوا: وهو ابن داية أمير المؤمنين، وهو جهبذه وصاحب بيت ماله، وأخبره الَّذِي سأله أن أباه أخبره أن أبا هذا الرجل صاحب الدار كان صيرفيًّا جليلا فافتقر، وإن أم هذا الصبي ضربها الطلق فخرج أبوه يطلب لها شيئًا، ففقد وهلك، وأن أمه أرسلت إِلَى بعض الجيران تستغيث بهم، فقاموا لها بحوائج الولادة، ثم أنَّه ولد لأمير المؤمنين ولد ذكر وذلك الولد هو المأمون، وأنه عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل أثدائهن، فأرشدوا إِلَى أم هذا الصبي فَحُمِلَت إِلَى دار الرشيد، فحين وضع فم المولود عَلَى ثديها قبله وأرضعته، وصارت عندهم في حال جليلة، ثم لما ولى المأمون الخلافة كانت المرأة وابنها معه، وبنى ابنها هذه الدار، وسأله عن أمه: أحية هي؟ قالوا: نعم، وهي تمضي إِلَى دار الخليفة أيامًا وتكون عند ابنها أيامًا، فجاء الرجل الصيرفي حتى دخل الدار مع الناس فرآها في غاية الحسن ورأى في صدرها شابًّا يشبهه، وبين يديه الكتاب والأموال والموازين يقبضون ويُقبضون، فجلس الرجل في غمار الناس حتى تفرقوا ولم يبق غيره فَقَالَ له الشاب: يا شيخ، هل من حاجة؟ قال: نعم أنا أبوك. قال: فتغير وجهه ووثب مسرعًا، ثم استدعاه إِلَى داره وأجلسه عَلَى كرسي وهناك ستار، فَقَالَ له الشيخ: لعلك تريد أن تختبر صدق قولي من جهة فلانة؟ وذكر اسم جاريته أم الصبي، فسمعت الجارية صوته فرفعت الستارة