للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مما يحصل لقلوبهم في الدُّنْيَا؛ فإن غاية الحاصل [للقلوب] (١) في الدُّنْيَا هو تجلي أنوار الإيمان في القلب، حتى يصير الغيب كأنه شهادة، ومن قال: إن الأرواح والقلوب تكافح ذات الرب -سبحانه- في الدُّنْيَا عيانًا، فهو غالط، فإن هذا لم يثبت لأحد إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، كما ذكره الصحابة -رضي الله عنهم- وصنف بعضهم مصنفًا سماه "تفضيل العبادات عَلَى نعيم الجنات" وأشار إِلَى أن العبادات حق الرب، وأن النعيم حظ النفس، وكأنه ظن أن لا نعيم في الجنة إلا التمتع بالمخلوقات [فيها] (١) وهو غلط عظيم، فإن أعلى نعيم الجنة ما يحصل فيها من معرفة الله ومشاهدته، فإن علم اليقين يصير هناك عين اليقين، وتتجدد معرفة عظيمة لم تكن موجودة قبل ذلك؛ بل ولم تخطر عَلَى قلب بشر وكذلك توحيد أهل الجنة ودوام ذكرهم هو من أكمل لذاتهم، ولذلك يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس.

قال ابن عيينة: "لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا" وكذلك ترنمهم بالقرآن و (سماعه) (٢) وأعلاه سماعه من الله (عز وجل) (٣) فأين هذا من تلاوة أهل الدُّنْيَا وذكرهم؟ وأما سائر العبادات فما كان منها فيه مشقة عَلَى الأبدان فإن أهل الجنة قد أسقط ذلك عنهم؛ وكذلك ما فيه نوع ذل وخضوع كالسجود ونحوه.

وأما ما في العبادات من النعيم الحاصل بها لأهل المعرفة في الدُّنْيَا، فإنَّه يحصل لهم في الجنة أضعافا مع راحة (الجسد) (٤) من مشقة التكاليف التى في الدُّنْيَا، فتجتمع لهم راحة القلب والبدن عَلَى أكمل الوجوه.

وهذا مثل الصلاة، فإن العارفين في الدُّنْيَا إِنَّمَا يتنعمون بما فيها من المناجاة وآثار القرب، وما يرد عليهم من الواردات في تلاوة الكتاب، ونحو ذلك من


(١) من المطبوع.
(٢) في المطبوع: "وسماعهم له".
(٣) في المطبوع: "جل جلاله وتقدست أسماؤه".
(٤) في المطبوع: "البدن".