إبليسَ، وإنما اتَّخذها فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلمًا، وما كُفيتَ من المسألةِ والفُتيا فاغتنمِ ذلك ولا تُنافسهم، وإياكَ أن تكونَ كمن يُحبُّ أن يُعملَ بقولهِ أو يُنشر قولهُ أو يُسمع قولُهُ، فَإِذَا تُركَ ذلك منه عُرفَ فيه، وإياك وحُبَّ الرئاسة، فإنَّ الرجلَ يكونُ حُبُّ الرئاسةِ أحبَّ إِلَيْهِ من الذهب والفضةِ، وهو بابٌ غامضٌ لا يُبصرُهُ إلاَّ البصيرُ من العُلماءِ السَّماسرةِ، فتفقَّد بقلبٍ واعمل بنيَّةٍ، واعلم أَنَه قد دنا من النَّاسِ أمرٌ يشتهي الرجلُ أن يموتَ، والسلامُ".
ومن هذا البابِ أيضاً كراهةُ أن يُشهرَ الإنسانُ نفسهُ للناسِ بالعلم والزهدِ والدِّينِ، أو بإظهارِ الأعمالِ والأقوالِ والكراماتِ ليزار وتُلتمَسَ بركتُهُ ودُعاؤُه، وتقبيل يدُهُ وهُو مُحبٌّ لذلكَ ويُقِيمُ عليهِ ويفرحُ به أو يَسعى في أسبابهِ.
ومن هنا كانَ السلف الصالحُ يكرهونَ الشُّهرةَ غايةَ الكَراهةِ، منهُم: أيوبُ والنخعيُّ وسفيانُ وأحمدُ وغيرُهم من العلماءِ الربَّانيينَ، وكذلك الفُضَيلُ وداود الطَّائيُّ وغيرُهما من الزُّهَّادِ والعارفينَ، وكانوا يذُمُّونَ أنفسهُم غايةَ الذمِّ ويسترون أعمالهُم غايةَ السَّترِ.
دخلَ رجلٌ عَلَى داودَ الطائيّ فسألهُ ما جاء به؟ فَقَالَ:(جئت)(*) أزورك. فَقَالَ: أمَّا أنتَ فقد أصبتَ خيرًا حيثُ زُرتَ في الله، ولكن أنا أنظرُ ماذا لقيتُ غدًا إذا قيل لي: من أنتَ حتَّى تُزارَ؟ من الزهَّادِ أنتَ؟ لَا والله. من العُبَّادِ أنتَ؟ لَا واللَّه. من الصالحينَ أنت؟ لَا واللَّه ... وَعدَّدَ خصالَ الخيرِ عَلَى هذا الوجهِ، ثُمَّ جعَل يُوبِّخُ نفسُه، فيقول: يا دَاودُ! كنتَ في الشَّبيبةِ فاسقًا، فلمَّا شِبتَ صِرتَ مُرَائِيًا، والمُرائي أشرٌّ من الفَاسقِ.
وكان محمدُ بنُ واسعٍ يقولُ: لو أنَّ للذنوبِ رائحةً ما استطاعَ أحد أَن يُجَالِسَني.
وكان إبراهيمُ النخعيُّ إذا دخلَ عليهِ أحدٌ وهو يقرأُ في المصحفِ غَطَّاهُ.