للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا بَرد العيش بعد الموت. فالمرادُ به: طيب العيش (ولذاته) (*)، وما تقر به عين صاحبه.

فإنَّ البرد يحصل به قُرة عين الإنسان وطيبها، وبرد القلب يوجب انشراحه وطمأنينته، بخلاف حرارة القلب والعين.

ولهذا في الحديث: "طهر قلبي بالماء والثلج والبرد" (١).

ودمعةُ السرور باردة، بخلاف دمعة الحُزن فإنها حارة.

فبردُ العيش هو طيبه ونعيمه، وفي الحقيقة إنَّما يكمل طيب العيش ونعيمه في الآخرة لا في الدُّنْيَا؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عيش إلاَّ عيش الآخرة" (٢).

وسببُ ذلك أنَّ ابن آدم مركبٌ من جسد وروح، وكل منهما يحتاج إِلَى ما يتقوت به ويتنعم به، وذلك هو عيشه.

فالجسدُ عيشه: الأكلُ والشرب، والنكاح واللباس والطيب، وغير ذلك من اللذات الحسية.

ففيه بهذا الاعتبار مُشابهة بالحيوانات في هذه الأوصاف.

وأمَّا الروح: فهي لطيفة، وهي روحانية من جنس الملائكة. فقوتُها ولذتها وفرحها وسرورُها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها، وفيما يقرب منه مِن طاعته في ذكره ومحبّته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه.

فهذا هو عيشُ النفس وقُوتُها، فَإِذَا فقدت ذلك مرضت وهلكت؛ أعظم مما يهلك الجسد بفقد طعامه وشرابه؛ ولهذا يوجد كثير من أهل الغِنى والسعة يُعطي جسده حظِّه من التنعيم ثم يجد ألمًا في قلبه ووحشة، فيظنَّه الجهال أنَّ


(*) ولذاذته: "نسخة".
(١) أخرجه البخاري (٧٤٤)، ومسلم (٥٩٨) عن حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (٦٣٦٨)، ومسلم (٥٨٩) من حديث عائشة.
(٢) أخرجه البخاري (٦٤١٣)، ومسلم (١٨٠٥) عن حديث معاوية بن قرة. وأخرجه البخاري (٦٤١٤)، ومسلم (١٨٠٤) من حديث سهل بن سعد.