للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويُروى عن المسيح عليه السلام، أنَّه قال: يا معشر الحواريين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلموا الناس قليلًا. قالوا: كيف نكلم اللَّه كثيرًا؟! قال: اخلوا بذكره، اخلوا (بذكر نعمائه) (*) اخلوا بمناجاته.

ما أطيبَ عيشَ مَن يخلو بحبيب ... يَلْتَذُّ بِهِ من غير مُحَاشاةِ رقيب

أعيا مرضي بكم كلّ طبيب ... من أمَّل فضلَ مثلِكم كيفَ يَخِيب

واعلم أنَّ الجمع بين هذين العيشين في دار الدُّنْيَا غيرُ ممكن، فمن اشتغل يعيش روحه وقلبه وحصل له منه نصيب وافر لها عن عيش جسده وبدنه، ولم يقدر أنْ يأخذ منه نهاية شهوته، ولم يقدر أنْ يتوسَّع في نيل الشهوات الحسية، وإنما يأخذ منها بقدر ما تقوم به حاجة البدن خاصة، فينتقص بذلك عيشُ الجسد، ولا بد.

وهذه كانت طريقةُ الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وكان اللَّه يختار أنْ يقلل نصيبهم من عيش أجسادهم، (ويوفر) (**) نصيبهم مِن عيش قلوبهم وأرواحهم.

قال سهل التستُري: ما آتى الله عبدًا مِن قُربه ومعرفته نصيبًا إلاَّ حرمه من الدُّنْيَا بقدر ما أعطاه من معرفته وقربه، ولا آتاه من الدُّنْيَا نصيبًا إلَّا حرمه (من) ( ... ) معرفته وقُربه بقدر ما آتاه من الدُّنْيَا.

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتصد في عيشه غاية الاقتصاد، مع ما فتح اللَّهُ عليه من الدُّنْيَا والملُك، ومات ولم يشبع من خُبز الشعير، وكان يقول: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلِ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (١).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (٢).


(*) بدعائه: "نسخة".
(**) ويوف: "نسخة".
( ... ) منه: "نسخة".
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥)، والنسائي (٧/ ٦١) من حديث أنس.