للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والنساءُ والطيب فيهما قوَّة الروح، بخلاف الطعام والشراب، فإنَّ الإكثار منهما يقسّىِ القلب ويفسده، وربما أفسد البدن أيضاً؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلاً، فَثُلُثٌ طَعَام، وَثُلُثٌ شَرَاب، وَثُلُثٌ نَفَس» (١).

قال بعضُ السلف: قلَّةُ الطعام عونٌ عَلَى التسرُّع إِلَى الخيرات.

وقال آخر: ما قلَّ طعامُ امرئ إلَّا رق قلبُه ونديت عيناه.

وقال إبراهيمُ بن أدهم: الشِّبع يميت القلب، ومنه يكون الفرحُ والمرح والضحك.

وقال أبو سليمان: إِنَّ النفس إذا جاعت وعطِشت صفي القلبُ ورق، وإذا شبِعت ورويت عمي القلب.

وقال: مفتاح الدُّنْيَا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.

وقيل للإمام أحمد: يجدُ الرجلُ رقَّة من قلبه وهو يشبع؟ قال: ما أرى.

ولهذا المعنى شرع اللَّه الصيام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُواصل في صيامه أيامًا فلا يأكل ولا يشرب، وإذا سُئل عن ذلك يقول: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (٢) يُشير إِلَى أنَه يستغني عن قُوت جسده بما يمنحه اللهُ من قوت روحه، عند الخلوة به والأنس بذكره ومناجاته مما يُورده عَلَى قلبه من المعارف القُدسية والمواهب الإلهية.

لها أحاديثُ من ذكراكَ تُشغلها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد

واعلم أنَّ عيش الجسد يُفسد عيشَ الروح وينغصه، وأمَّا عيشُ الروح فإنَّه يُصلح عيشَ الجسد، وقد يُغنيه عن كثيرٍ مما يحتاج إِلَيْهِ من عيشه.


(١) أخرجه أحمد (٤/ ١٣٢)، والترمذي (٢٣٨٠)، والنسائي في "الكبرى" (٤/ ١٧٧)، وابن ماجه (٣٣٤٩) من حديث المقدام بن معدي كرب.
(٢) أخرجه البخاري (١٩٦٥)، ومسلم (١١٠٣) من حديث أبي هريرة.