للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالصالحونُ كلهم قللوا من عيش الأجساد، وكثَّروا من عيش الأرواح، لكن منهم من قلَّل من عيش بدنه ليستوفيه في الآخرة، وهذا تاجرٌ. ومنهم من فعل ذلك خوفًا من الحساب عليه في الآخرة.

والمحققون فعلوا ذلك تفريغًا للنفس عمَّا يشغل عن الله، لتتفرَّغ القلوبُ للعكوف عَلَى طاعته وخدمته، وذكره وشكره، والأنس والشوق إِلَى لقائه.

فإنَّ الأخذ من عيش الأجساد أكثر من قدر الحاجة يُلهي عن الله، ويشغل عن خدمته.

قال بعضُهم: كلُّ ما شغلك عن الله فهو عليك شؤم، فلا كان ما يُلهي عن الله؛ إنه يَضر ويُردي، إنَّه لشؤم.

فما تفرَّغ أحدٌ لطلب عيش الأجساد، وأعطى نفسَه حظَّها من لك إلاَّ ونقص حظُّه من عيش الأرواح، وربما مات قلبُه من غفلته عن الله وإعراضه عنه، وقد ذمَّ الله من كان كذلك فَقَالَ تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} الآية (١).

ثُم إِنَّ ما حصَّلوه من شهواتهم ينقطع ويزول بالموت، وينقص بذلك حظُّهم عند الله في الآخرة. فإن كان ما حصلوه من شهواتهم من حرام فذلك هو الخسرانُ المُبين؛ فإنَّه يُوجب العقوبة الشديدة في الآخرة.

فلمَّا لم يجتمع في الدُّنْيَا للعبد بلوغُ حظّه من عيش رُوحه وبلوغ (نهايته) (*) من عيش جسده، جعل الله للمؤمنين دارًا جمع لهم فيها ما بين هذين الحظَّين عَلَى نهاية ما يكون من الكمال، وهي الجنة.

فإنَّ فيها جميعَ لذات الأجساد وعيشها ونعيمها؛ كما قال الله تعالى:

{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} (٢) وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا


(١) مريم: ٥٩.
(*) نهاية حظه: "نسخة".
(٢) الزخرف:٧١.