للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (١) ولا ينقصُ ذلك حظَّهم من لذات أرواحهم؛ فإنَّه تتوافر لذات قلوبهم، وتتزايد عَلَى ما كانت للمؤمنين في الدُّنْيَا، مما لا نسبة لما كان في الدنيا إِلَيْهِ.

فإنَّ الخبر في الدُّنْيَا يصير هناك عيانًا، فأعلى نعيمُهم هناك رؤية اللَّه عز وجلَّ ومشاهدته، وقُربه ورضاه، ويحصل لهم بذلك نهايةُ المعرفة به والأُنس، وتتزايد هنالك لذةُ ذكره عَلَى ما كانت في الدُّنْيَا؛ فإنهم يُلهمون التسبيح كما يلهمون النفسَ، وتصير كلمةُ التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا. فعُلم بهذا أنَّ العيش الطب عَلَى الحقيقة لا يحصل في الدُّنْيَا، إِنَّمَا يكون بعد الموت. فإن من يُوفر حظَّه من نعيم روحه وقلبه في الدُّنْيَا يتوفَّر في الآخرة أيضًا، ومن توفَّر حظُّه من نعيم جسده في دنياه وسرَّ بها نقص في الدُّنْيَا ونقص به أيضًا حظه من نعيم الآخرة.

ومع هذا فهو نعيمٌ منغَّص لا يدوم ولا يبقى، وكثيرًا ما يُنغَّص بالأمراض والأسقام، وربما انقطع وتبدَّل صاحبه بالفقر والذل بعد الغنى والعز. وإنْ سلم من ذلك كلِّه فإنه ينغصه الموتُ، فَإِذَا جاء الموت فما كان مَن تنعم بالدنيا ولذاتها كأنّه ما ذاق شيئًا من لذاتها، خصوصًا إنْ انتقل بعد الموت إِلَى عذاب الآخرة؛ كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} إِلَى قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (٢).

وكان الرشيدُ قد بنى قصرًا، فلما فرغ منه ونجزه وفرشه استدعى فيه بطعامٍ وشراب وملاهي، واستدعى أبا العتاهية، فَقَالَ له: صِف لي ما نحن فيه من العيش. فأنشأ يقول:

عِش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القُصور

يُسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرَّواح وفي البكور

فذا النفوس تقعقعت (٣) ... في ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنًا ... ما كنت إلاَّ في غُرور


(١) ق:٣٥.
(٢) الشعراء: ٢٠٥ - ٢٠٧.
(٣) تقعقعت: اضطربت وتحركت. "القاموس المحيط" مادة: (قعقع).