للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان بعضُهم يقول في مناجاته: قبيحٌ بعبد ذليل مثلي يعلم عظيمًا مثلك.

اللهم إنك تعلم أنك لو خيَّرتني أنْ تكون لي الدُّنْيَا منذ خُلقت أتنعم فيها حلالاً لا أُسْأَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرج روحي الساعة (١).

قال بعض السلف: إذا ذكرتُ القدومَ عَلَى اللَّه كُنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حرَّه إِلَى الشراب الشديد بردُه.

أشتاق إليك يا قريب نائي ... شوق الظامي إِلَى زُلال المائي

قال الجنُيد: سمعتُ سريًّا يقول: الشوقُ أجل مقام العارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق بالشوق لها عن كل شيء يشغله عمَّن يشتاق إِلَيْهِ.

رئي داود الطائي في المنام عَلَى منبر عالٍ، وهو ينشد:

ما نال عبدٌ من الرحمن منزلة ... أعلى من الشوق إنَّ الشوق محمود

لا زال المُحبُّون يروضون أرواحهم في الدُّنْيَا حتى خرجت عن أبدان الهوى وصارت في حواصل طير الشوق، فهي تسرح في رياض الأُنس وترد حياضَ القُدس، ثم تأوي إِلَى قناديل المعرفة المُعلقةِ في المحل الأعلى حول العرش؛ كما قال بعضُ العارفين: القلوب جوَّالة، فقلبٌ يدور حول العرش، وقلبٌ يجول حول الحُش، كلَّما حلَّت نسماتُ القُدس من أرجاء الأُنس عَلَى أغصان قلوب الأحباب، تمايلت شوقًا إِلَى ذلك الجنَاب.

كان بعضُ السلف يمشي أبدًا عَلَى قدميه من الشوق، وكان بعضُهم كأنّه مخمورٌ من غير شراب (٢).


(١) كذا؛ وقد سقط: "لاخترت أن تخرج نفسى الساعة". انظر "استنشاق نسيم الأنس" (٩٦) للمؤلف.
(٢) لم يكن هذا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ولا خير في هدي جانب هديه - صلى الله عليه وسلم -.